تكثر الأمثلة في مجتمعاتنا العربية وتكون نتيجة تجربة ومعاناة وألم، لذلك تأتي صادقة وصادمة أحياناً وربما نتوقف عندها بكثير من التأمل والإجلال محاولين التوصل إلى عمق فلسفتها وإلى شرحها لتفهمها الأجيال القادمة علّها تأخذ بها.. باعتبارها حقيقة نافذة ومن الصعب نكرانها.
وتداول الأمثلة لا يقتصر على الشعوب العربية فقط بل كل شعوب العالم لديها أمثلتها النابعة من تجاربها وتراثها وتاريخها، إضافة إلى الأمثلة الشاملة التي تنطبق على كل الشعوب.
في الحقيقة لفت نظري مثل شعبي قديم يقول (معك قرش بتسوى قرش) أي قيمتك بقيمة القرش الذي تملكه. وإذا سلمنا جدلاً أن هذا المثل صحيح.. وهو صحيح في مجتمعنا العربي باعتبار العقل والعلم والمعرفة ليست القيمة الأولى في حياة الشعوب المتخلفة.. لهذا يردده كثيراً الآباء على مسامعنا كوصية مهمة لأبنائهم كي لا يسرفوا ويهدروا أموالهم أو رزقهم دون جدوى لأن قيمتهم من قيمة ما يملكون أو يحصدون من منافع لا يجوز العبث فيها.. وحقيقة هذا المثل له مصداقية كبيرة. لأن الجني يعني التحصيل.. والتحصيل يعني العمر المبذول لتحقيق تراكم مادي يؤدي إلى تراكم معنوي وقيمي. وربما نجد فاعلية هذا المثل وتعظيمه هذه الأيام في مجتمعنا السوري الواقع تحت العدوان والقتل والحصار ولا يملك وسيلة أمان وقيمة سوى المال.. والمال وحده في مجتمع استهلاكي متخلخل القيم والمبادئ هو الذي يؤكد وجود الفرد في مجتمع – فرداني -. لقد تحول الإنسان إلى سلعة غالية الثمن إذا كان هذا الإنسان يملك ثروة وبالتالي جاهاً ووجاهة ويعني بالنهاية سلطة. أما إذا كان فقيراً فهو سلعة رخيصة لا أحد يعيرها الانتباه.. كما لو أنه تفاحة مهترئة.
من هنا تأتي أهمية الأمثلة الشعبية والتراثية في تشكيل الوعي أو خلخلته.. وخاصة لدى الجيل الشاب الذي تتوزع أفكاره وقيمه بين ما يقرؤه وبين ما يعيشه ويسمعه كوصايا من أهله (انتبه.. سعرك بما تملك من قروش).
إذن المادة تتفوق على كل شيء.. على العقل والفكر والإبداع والبطولة والإخلاص.. وهذا أمر خطير لأنه ينفي العقل والحكمة والنضال في سبيل العلم والمعرفة ويلغي السعي في سبيل تحقيق القيم الإنسانية والأخلاقية لتبقى المادة هي التي تسعّر المرء وتعطيه قيمته وليس شيئاً آخر لأن المثل يقول: (معك قرش بتسوى قرش)
هذا المثل يكرس حالة البحث عن المال أكثر بأي وسيلة. وهو يدعو للبخل وعدم مدّ يد العون للآخر والتعالي على الفقراء والمحتاجين.
ولكن لو رجعنا ودققنا بما يجري الآن في سورية على الأقل.. لوجدنا أن المثل يصيب تماماً.. فمعظم الناس تلهث وراء المادة ولا تقيم وزناً للمهن التي لا تنتج مالاً وفيراً.. لذلك العلم ليس من الأولويات في زمن الحرب. لأن طريق العلم طويل ومكلف ومعظم الأسر -بعد- الأزمة لا تملك القدرة على إرسال أولادها إلى الجامعات (وهذه من فضائل ثورة الحرية الداعشية) إضافة إلى أن الشهادة لا تطعم خبزاً إذ يعتبر المتعلم والموظف هو الفقير الأول في البلد.. لا أحد يتنبه لوجوده ولا لكفاءته لعلمية إذا لم يكن صاحب سيارة ماركة كذا.. ويسكن بيتاً في ضاحية كذا. ويعرف أهم المسؤولين والتجار والمقاولين.. غير أن البلد تمتلك طاقات كبيرة من العلماء والمفكرين والشرفاء الذين يسكنون الأحياء الشعبية ويركبون باصات النقل العام ولا يراهم أحد في زحمة الفساد… بينما يأتي لصّ يسرق أموال الناس من خلال مشاريع ومؤسسات وإدارات عامة.. فيلاقيه الناس باحترام ويمطرونه بالأدعية لمجرد أنه ابتسم لهم وقبل أن يصافحهم.
لا شكّ في أن للمال سطوته منذ قديم الأزل، ولكن الشعوب المتطورة تبجل العقل والعلم أولاً لترتقي بإنسانها.
معاً على الطريق
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 21-11-2018
الرقم: 16841