سيبقى صراخ الشرطية الفرنسية يرن في أسماع عقلاء العالم لفترة طويلة وهي تقدم نفسها قرباناً وأضحية للمحتجين راضية بموتها مقابل ألا يقوم المحتجون بتدمير وتخريب المنشآت والمؤسسات الخاصة والعامة مذكرة إياهم بما فعل العرب في بلدانهم. هي صرخة استنهاض لمواطن يشعر بحقيقة انتمائه لبلده فلا الحكومة باقية ولا جميع المسؤولين ثابتين في مناصبهم، فيما البلد والدولة بمؤسساتها وأرضها وشعبها باقية وثابتة وإن تدمير حجر فيها أو حرق مكتب أو قطع شجرة إنما يعد المؤشر الأولي لتدمير علاقات اجتماعية وهدم صيغة توافقية وخرق للقانون والدستور في آن.
قد تكون تجارب العرب صعبة في التعامل مع آلية التدمير والتخريب والقتل الإرهابي، لكن التجربة السورية هي الأشد إيلاماً والأكثر دموية وعنفاً ليس بين الدول العربية وحدها ولكن بالنسبة للعالم كله، فلم يشهد التاريخ حالة مشابهة تم فيها تجنيد مرتزقة من الإرهابيين من أكثر من ثلاث وثمانين جنسية تدربوا على أبشع أشكال القتل والذبح والتفجير والتخريب وإذلال الناس وسرقة ممتلكاتهم وتدمير منازلهم، وبالمقابل كانت القدرة على مواجهة ذلك العدوان الإرهابي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، فقد أثبت السوريون أنهم وحدهم من يحمل عوامل ومقومات الفكر والسلوك الحضاري الملتزم، فأمام آلاف المؤسسات الإعلامية التي تعمل كماكينة للحرب النفسية على مدار الساعة كانت القيم الإنسانية الحقيقية حاضرة في نفس وسلوك المواطن والمقاتل والعامل والفلاح السوري بكل قوة وثبات، ورغم مشاهد الدمار والخراب الفظيعة، ورغم التهديدات الأميركية والصهيونية والاستعمارية ورغم العدوان الغربي والتدخل لدعم الإرهابيين إلا أن السوريين قدموا نموذجاً يصعب وقد يستحيل تكراره في أي مجتمع من المجتمعات .
ويبقى الموقف السوري حدثاً تاريخياً يصعب القياس عليه، كما يصعب تكراره في القدرة على مواجهة الإرهاب التكفيري والإرهاب الدولي المنظم مع الاستمرار في ممارسة النشاطات اليومية كالمعتاد، فضلاً عن استمرار عمل وأداء المؤسسات الحكومية في تقديم خدماتها في الحدود المعقولة، وفوق هذا وذاك استمرت الحكومة بتقديم الخدمات لجميع المناطق دون استثناء وفي ظل احتدام المعارك والمواجهات مع التنظيمات الإرهابية، وحافظ السوريون على القدر الكبير من البنى الأساسية والمؤسسات والممتلكات فيما كان الإرهابيون يسعون لتدمير البشر والشجر وحرق الأراضي الزراعية وما عليها.
واليوم قد نرى الحضارة والعمران باديتين في الغرب الأوروبي، لكن القيم الثابتة غائبة في الواقع، وما الالتزام النمطي في احترام القانون إلا مجرد قناع كاذب كان يخفي بقايا زمن الهمجية.
مصطفى المقداد
التاريخ: الأثنين 10-12-2018
رقم العدد : 16856
التالي