عاد أصحاب السترات الصفراء في فرنسا في سبتها الرابع إلى الشارع مجدداً للتعبير عن غضبهم العارم على السياسة الضريبية التي ينتهجها ماكرون، رغم إظهار حكومته بعض التراجع عن قراراتها الأخيرة، وتقديمها وعودا بتعليق مؤقت لإجراءاتها الاقتصادية القاسية بحق الفقراء، ما يشير إلى أن الأزمة بين الحكومة والشعب أعمق بكثير من مجرد فرض رسوم على الوقود ومن ثم تعليقها، وهو ما تم التعبير عنه بالدعوة إلى استقالة ماكرون وحكومته، ما اعتبر التحدي الأكبر أمام ما يسمى «الجمهورية الفرنسية» منذ سقوط شارل ديغول في احتجاجات مماثلة عام 1968.
اللافت للانتباه في أحداث فرنسا الحالية، أنها عرّتْ المجتمع الغربي «حكومة وشارعاً» وأظهرت النموذج الرأسمالي الجشع على حقيقته، كما أسقطت قيم الحرية والإخاء والمساواة التي تغنى بها الفرنسيون لعهود طويلة، فالاحتجاجات التي شاهدها العالم عبر شاشات التلفزيون كانت أشبه بحرب شوارع بين متظاهرين غاضبين مارسوا أعمال شغب تخللها حرق سيارات ومحال ومراكز تجارية وتخريب ممتلكات عامة وخاصة، وقوات أمن وشرطة مارست قمعاً دموياً متعمداً بحق المحتجين، في حين اكتفى مراهق الاليزيه بشكر أجهزته القمعية على «الشجاعة والمهنية» التي ظهرت عليه، تاركا لرئيس حكومته ضعيف الخبرة مسؤولية معالجة الأزمة المتفاقمة..!
من بين ما كشفته أحداث باريس وسواها من المدن الفرنسية أن هناك هوة عميقة تفصل بين شرائح الشعب الفرنسي، فالثراء الفاحش الذي تتمتع به طبقة ضيقة من الشعب متحكمة بالقرار السياسي والاقتصادي، يقابله فقر مدقع لدى طبقة واسعة مهمشة ليس لها تمثيل حقيقي في الحكومة والبرلمان، وهو ما انعكس في تصرفات تعكس استياء شعبيا عارماً من الظروف المعيشية الصعبة وتقدم صورة مختلفة عن وضع الحريات العامة في البلاد.
وما يقال عن فرنسا يمكن أن ينسحب على أوروبا، حيث انتقلت عدوى السترات الصفراء إلى عدد من دولها الغنية والفقيرة، ما يعني أن النموذج الرأسمالي الغربي مهدد بالانهيار، لأنه قائم على مصالح الأفراد والشركات الكبرى وليس على مصالح عامة الشعب، ولن نتفاجأ إذا ما انهار في اجل قريب.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأثنين 10-12-2018
رقم العدد : 16856