ونسألُ من جديد: لماذا الشِّعْرُ؟ الحديثُ عن الشِّعرِ تحتَ أيِّ ظرفٍ زمانيٍ أو مكانيٍّ، يخلقُ جَلَبَة، مُجَادَلَةً، أخْذاً و رَدّاً، وهذا طبيعيٌّ جداً بالرُّجوع إلى الصِّيغة التي تؤطِّرُ الوعيَ وتصدرُ عنهُ الرُّؤى.
وسيكونُ طبيعياً جداً أيضاً، حينما نُرجِعُ هذا الأمر إلى الذَّائقة الفرديَّة أولاً، ثم إلى المشروع الأيديولوجي الذي يصدر عنه متلقي الشِّعر ثانياً, ما دعاني لهذا السُّؤال هو هذا الكمُّ المتزايد من أشباه الشُّعراء والذين تفيضُ قرائحُهم كلَّ يوم بعشرات القصائد التي لاتعدو كونها توصيفاً لما يختلج في دواخلهم، تغيبُ الفكرة وتغيبُ القضيةُ ويستغرقون تماماً في وصف المشاعر.
كلما انصرمت حقبةٌ من الزمان، أو ولَّى عِقدٌ من أعمار البشريَّة، يعودُ السُّؤالُ المُلحُّ المتكرَّرُ إلى الأذهان: هل ولَّى زمنُ الشِّعر؟ إنَّنا في امتحانٍ صعبٍ وخطيرٍ للغاية, إذ يبدو أنَّ العالم يوماً إثرَ يوم، وحقبة وراء حقبة، في عصر يسير إلى نهاية التاريخ ممجداً القسوة الفظيعة والاستهلاك المبتذل، والتصحُّرَ الذي يقتلُ الأرض والإنسان، وأغنياتِ الخضرةِ و الرَّبيع.
والشِّعرُ لايزالُ النَّافذة الممكنة لإعادة تعميدِ العالم الطَّامح بالرَّجاء, في انتظارِ أن يعيد البشرُ حساباتِهم بحثاً عن العقل والعلاقات الإنسانيَّة النَّظيفة و الجمال الإنسانيِّ القادر على الاحتماء في تُوَيْجَاتِ فَنِّهِ من عواصف الطُّغاة والجبابرة مهما عَتُوا واستكبَرُوا بأدواتِ الدَّمار والعُنفِ و القتلِ والوحشية.. إنَّه الشِّعرُ يمسحُ الألَمَ بعطرِ اللُّغة وصُوَرِها الفيَّاضة بالحنان والألوان، مشيراً إلى انهداماتٍ مرعبةٍ على خارطة العالم المكسُور المليء بالتَّغَيُّرات السِّياسيَّة والأيديولوجيَّة، ولكنه لايكتفي بالإشارة، إذ يستطيعُ أن يمجِّدَ الصَّفاءَ الإنسانيَّ ويمسحُ الألمَ عن جباهِ البشرِ المُتعَبِين في ذلكَ الضَّجيج الفجائعيِّ للحياة الاستهلاكيَّة.
إنَّ الشِّعرَ ليسَ إخراج الذِّهنِ البَشريِّ إلى العراءِ فحسب، وليس إتقان كشطِ الصَّدأ عن روح الحياة، وغسل جثث الكلمات المتقاطرة في زوايا الأيَّام بماء المُخَيِّلةِ السِّحري، أو حمل بيرقِ الهمِّ الإنسانيِّ والبِشارة بالحياة المثلى بعد فهمِ السَّير نحو جلجلتها المباركةِ فقط، بل هو ذلك كله معاً.. الشِّعرُ شبابُ الوجود وأيَّامُ مَجْدِهِ الكبير.. فلا غرابة إذاً أن تعيدَ القصيدةُ إلى الإنسان كينونتَهُ الحقَّة، حتى لاتصيرَ هباءً وقشوراً تذروها الأيام الزاحفة نحو العدم علَّ طيور الحرية الرائعة ترفرف بأجنحتها قبل الفجر حاملة وعداً ونبوءة بأن الحياة جديرة بأن تعاش، فليس الشعر حلية يتقلدها السادة المترفون، ولا السيدات الذاهبات في تفاهة اللحظة التي لاتغتذي بنسغ الإبداع العظيم.. وهكذا..
وفي زمن استسهال الكتابة، شعراً ونثراً، يظلُّ الشَّاعرُ المبدعُ وحدَهُ يرمي عن منكبيه التَّجاربَ الرَّخوة، ويصعدُ سلَّم الكلماتِ بثقةٍ وكبرياءٍ، ممتشقاً التَّواضع سلاحاً لا يمتلِكُهُ الأدعياءُ من الكتَّاب، في زمنٍ كثُرَ فيه الأدعياءُ والأشباهُ، ليتركَ للقصيدةِ وحدَها أن تجترحَ معجزتَها في الصُّعود نحو البهاء البِكرِ تدقُّ نواقيسَها في عالم البشرِ لتعلنَ أنَّ كائناً عظيماً على أهبة الولادة.. وهكذا كان لابدَّ من يدِ الشَّاعر المبدعة وقلبِهِ النَّيِّر من أن يشقَّا حُجُبَ الرُّؤيا الخافية عنَّا بسيف الإبداع المَهيب، فإذا نحنُ أمام رؤىً جديدةٍ وكوىً باهرةٍ، يتدفَّقُ منها نورُ الشِّعر العظيم.. جارفاً شُحَّ الرُّؤية وقصورَ النَّظرة التَّقليديَّة للحياة العاديَّة منتظرين الشَّاعرَ، نبيَّ كلِّ العصور، ليزيح هذه الغشاوة و يمزِّق تلك الحجب.
إنَّ الشِّعر هو كفاحُ الإنسان أمام قلقِ الوجود، هو إنتاجُ ما يتفلَّتُ من سحقِ الزَّمان، هو طقسٌ مقدَّسٌ في حضرة الزَّمان والدَّهر..لئلا يهلكنا الدَّهر، وسيبقى الشعراء وعبر الأزمان هم الأكثر حباً للمكان والزمان، للجمال والحب.. للحياة والوطن.. والأشد تعلقاً بها.. ولو كانت هذه جحيماً تنعق فيها غربان الوحشة، وترتع فيها ذؤبان بشر.
«إن صورة الشاعر المطبوعة في مخيلة الناس، هي صورة خرافية لإنسان يمتلك طاقة غير محددة على الحب، ويمتلك قلباً يتسع لعشق العالم كله..», «العمل الشعري هو من أعمال الطهارة، وعلى الذين يكرهون الاستحمام كل يوم، ويرفضون ارتداء الملابس النظيفة كل يوم، أن يعودوا إلى الغابة» «نزار قباني».
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 4-1-2019
الرقم: 16876