خسرت الأوساط الفنية والثقافية الفنان التشكيلي علي الصابوني، الذي رحل يوم الجمعة 28-12-2018 بعد رحلة فنية طويلة، امتدت لأكثر من نصف قرن، أنجز خلالها العديد من الأعمال الجدارية التاريخية،
واللوحات الفنية. فقد كان يبحث وبشكل مستمر ومتواصل، ويشعر بسعادة مطلقة، في خطوات التعبير بطريقته الفنية العفوية والخاصة، حيث كان يقوم بتبسيط العناصر والأشكال في لوحاته التعبيرية، ويركز في جدارياته لإبراز قدرته على الرسم الواقعي، وإظهار حيوية حركة الخيول والعناصر الإنسانية.
هكذا بدأت رحلته مع موضوعات المعارك والحروب وأخذت لوحاته وجدارياته تسجل خطوات تحوله من فنان تعبيري وتبسيطي، إلى فنان تخيلات أجواء المعارك الماضية رغم أنه – وعلى حد قوله – لم يتخل في لوحات الخيول عن لمسته اللونية، التي توصل إليها في مراحله السابقة، فهو لم يندمج كلياً مع الاتجاه الواقعي التقليدي، وإنما كان يقيم نوعاً من التوازن بين الصياغة الأكاديمية والتعبيرية للوصول إلى واقعية جديدة ومعاصرة، ولقد كشفت لوحاته وجدارياته التي جسدت بطولة دحر الغزاة على أبواب المدن العربية، عن إمكانيات لافتة في إبراز حيوية المعركة والفروسية ورشاقة حركة وقفزة الحصان.
وكان الفنان الراحل (الأستاذ في كلية الفنون الجميلة بدمشق) قد قام بجولة إطلاعية على التراث الفني العالمي، في أكثر من عاصمة ومدينة أوروبية وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً) وحين عاد، غذت تأملاته بحوثه التشكيلية، وكشف عن قدرات جديدة في تكوين الأشكال الصامتة والمناظر، التي قدمها من منظور أعلى من خط الأرض، وبرزت عبر مساحات لونية متجاورة ومتداخلة ألغت التفاصيل ومؤشرات الواقع والمألوف.
حواري مع الراحل الكبير
ويشيرالراحل الكبيرعلي الصابوني في حوار خاص كنت أجريته معه، إنه تعاطف مع اتجاهات الحداثة، وسجل خطوات انفتاحه على فنون القرن العشرين منذ العام 1959 كما ساهم في تأسيس رابطة الحلقة الفنية في مدينة حماة، قبل تأسيس مركز الفنون التشكيلية بأربع سنوات.
وعن مكتسبات مراحل الدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة قال: لقد أكدت على أهمية الأساس الأكاديمي لانطلاقة الفنان الحديث. وأشار أن كلية الفنون الجميلة في الجامعة السورية تأسست بمساعدة أساتذة مصريين، إلى جانب مساهمة أساتذة سوريين من أمثال: ناظم الجعفري ونصير شورى ومحمود جلال، وكانت الأنظمة الدراسية فيها شبيهة بأكاديمية الفنون في القاهرة.
وأضاف: كان يدرسنا أساتذة مصريون مثل حسين فوزي (عميد الكلية في تلك المرحلة) وفي السنة الثانية من دراستي، أتى إلى الكلية الأساتذة مخلص الصابوني (شقيقي) والياس زيات وفاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد.
وتابع: مع الفنان الإيطالي (لارجينا) الذي كان أستاذاً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، بدأت الرؤى الحديثة تظهر في أعمال الفنانين السوريين الذين برزوا في تلك المرحلة، حيث ترك تأثره على لوحات معظم الأساتذة الأوائل، باستثناء فاتح المدرس ولؤي كيالي ومخلص الصابوني.
وعن الخط الأسلوبي الذي يتبعه في لوحاته قال: منذ عام 1958 وأنا أركز على رسم الوجوه وعناصر الطبيعة والأشكال الصامتة، ضمن نواح تبسيطية، مع التركيز على الضربة أو اللمسة المائلة، وإعطاء أهمية للهارموني العام على اللوحة، مع المحافظة على درجات لونية معينة تتجه نحو الرماديات، وكل عمل فني عندي لابد أن يتأثر بالموضوع. بمعنى أن الموضوع يلعب دوره في تحديد درجة وضوح الأشكال أو اختصارها، وتتابع الألوان الفاتحة والخافتة، وعلى سبيل المثال في لوحات الحروب والوجوه التاريخية لابد من إعطاء أهمية قصوى للعنصر الإيضاحي وللتفاصيل الضرورية حتى أكون أميناً للقيم التاريخية، وبالتالي فأنا أحذف التفاصيل غير الضرورية وأعمل على التبسيط في الخلفيات في اللوحات التاريخية للإبقاء على بعض اللمسات الفنية الخاصة بي والتي تعطي لوحتي أسلوبها الخاص.
واللوحة بهذه الطريقة تقدم أكثر من دلالة، وتعطي المشاهد العادي والمتذوق المختص فرصة للقراءة البصرية، من دون أن يحدث أي خلل عند الانتقال من موضوع إلى آخر، لذا تأتي لوحاتي ذات وحدة بصرية متجانسة، ترتاح إليها عين المشاهد نظراً لتنوع مواضيعها وتباين حساسيتها.
تخيلات الحروب التاريخية
وتحدث الفنان الراحل علي الصابوني عن لوحاته الجدارية التي أنجزها بقوله: أنجزت أربع لوحات عن معركة حطين بلغ طول واحدة منها خمسة أمتار وبعرض 120سم وهي تدخل ضمن مجموعة خاصة, كما أنجزت لوحة تحرير القنيطرة بقياس (350 *140) سم وهي موجودة في وزارة الداخلية, كما توجد لوحة جدارية لي في قصر الشعب بعنوان فرسان اليرموك وهي بقياس (80 *120) سم. ولوحة أخرى في وزارة الثقافة بقياس (180 *120) سم أيضاً.
وعن الصعوبات التي تعترضه في مجال إنجاز اللوحات الجدارية قال: الصعوبة الأولى تتركز في عدم وجود أرشيف تاريخي (عن الزي والأسلحة وملامح الشخصية التاريخية) ولهذا فأنا أبذل جهداً مضاعفاً للبدء بالعمل في لوحة جدارية.
وأضاف في الحوار الذي أجريته معه منذ سنوات: ناحية هامة أريد التوقف عندها هي أنني بلوحاتي الجديدة عن الخيول والمعارك أرتفع بالذوق الجمالي العام، لأنني أقدمها برؤية واقعية معاصرة، وهذه الرؤية تقرب اللوحة من الناس وبالتالي تجعلهم يتحسسون شيئاً فشيئاً العناصر الفنية الحديثة الموجودة في تلك اللوحات والجداريات مثل اللمسات اللونية العفوية (بالأخص المتواجدة في الخلفيات) وهذا يعني أنني أقدم لوحة واقعية بروح القرن العشرين، حيث أوزع العناصر بطريقة فنية حديثة، أتخلى فيها عن بعض تفاصيل المنظور، لصالح إبراز أو تجسيد المحسوس عبر إشارات الواقعية المعاصرة، التي أبحث عنها بشغف لإشباع رغبتي في اكتشاف إيقاعات جديدة في الرسم والتشكيل الحديث. وفي مجمل لوحاته التي قدمها، كان يحافظ على ذلك الخط الأسلوبي والتقني، ضمن رؤية شديدة التماس بشخصيته، كانت تبوح بما في أعماق ذاته، وتبحث عن صياغة لونية تقترب من الشاعرية البصرية، وتستجيب لعاطفته وأحاسيسه الداخلية.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الأثنين 7-1-2019
رقم العدد : 16878