تؤشر التطورات الأخيرة المتعلقة بمنطقة شرق الفرات ومسلسل الانسحاب الأميركي المتباطئ منها والهراء الإعلامي المتعلق بما يسمى «ملء الفراغ» المتشكل فيها جراء الخروج الأميركي، إلى أن رأس النظام التركي رجب أردوغان لم يتخل نهائياً عن أوهامه وأطماعه في سورية وطموحه عبرها للعب دور إقليمي أكبر يتناسب مع عقده السلطوية الموروثة عن أجداده البائدين، محاولاً الاستفادة من حالة التخبط الأميركية وضبابية الرؤية لدى ترامب وفريقه السياسي إزاء مجمل الأوضاع الدولية وحالة التوازن القطبية التي طرأت عليها بعد تمكن روسيا من استعادة دورها كلاعب عالمي كبير استطاع في السنوات الماضية كبح الجموح الأميركي ووضع حد لغطرسته وفرض إملاءاته في العديد من الملفات الدولية، كما لا يخفى على أحد أيضاً أنه يحاول استثمار رغبة موسكو بزج تركيا بشكل إيجابي في ملف الأزمة في سورية لإيجاد حلول سلمية تحسم هذا الملف بعيداً عن العنف والصدام.
إذ لا يكاد المتورم بأوهامه العثمانية أردوغان يخرج من طرح بائس اكتشف عقمه وعدم جدواه بشأن الاستثمار في الملف السوري حتى يعود لطرح آخر مشتق عنه أو شبيه به، ليتمسك به ويذهب بعيداً في الترويج له، إلى أن تتوفر لديه ظروف ومعطيات جديدة تجعله يكتشف استحالة تطبيقه على أرض الواقع بفعل تراكم العوامل الجيوسياسية والميدانية التي تصب في مصلحة الدولة السورية وحلفائها.
فمع الطرح الأميركي الخبيث بخصوص ما يسمى «المنطقة الآمنة» في شرق الفرات، وهو طرح تركي قديم ـ بالمناسبة ـ حاول ترامب من خلاله اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، كامتصاص نقمة الأكراد نتيجة التخلي الأميركي عنهم والحيلولة دون إيقاعهم في صدام غير متكافئ مع الأتراك، إرضاء لنزعة الهيمنة والتدخل عند اردوغان لحساب حلف الناتو، وتأخير حل الأزمة في سورية وفق المعطيات الجديدة، سارع أردوغان لتلقف الطرح الترامبي والبناء عليه من خياله المريض على أمل استباق تحركات الدولة السورية الساعية لاستعادة سيادتها وفرض سلطاتها على هذه المنطقة الحيوية من جغرافيتها، كرد فعل طبيعي واستحقاق وطني يستثمر انتهاء الحالة الشاذة التي أوجدها الأميركيون وتحالفهم المزعوم في هذه المنطقة تحت عنوانهم المضلل أي محاربة تنظيم داعش.
غير أن اللافت في هذا الطرح الترامبي الخبيث أنه يحاول مقايضة ما يسمى المنطقة المنزوعة السلاح التي اتفق بوتين وأردوغان في سوتشي لإقامتها في محافظة إدلب تمهيداً لإخراج الجماعات الارهابية الأكثر تطرفاً كجبهة النصرة منها، الأمر الذي يؤشر إلى رغبة أصحاب القرار بواشنطن في تحويل «التفاهم» التركي الروسي بخصوص إدلب إلى صراع وتناقض في منطقة شرق الفرات، إذ سارعت كل من دمشق وموسكو لرفض هذا الطرح ورأتا فيه التفافاً غير قانوني وغير شرعي على خطة الانسحاب الأميركية المعلنة، كما أعلنتا تمسكهما باستعادة سورية كامل سيادتها على هذه المنطقة.
رغم الخلافات التي يتم الترويج لها وتضخيمها بين واشنطن وأنقرة من حين لآخر، إلا أن الواقع يقول شيئاً آخر تماماً، فالنظام التركي رغم التفاهم الذي أقامه مضطراً مع حلفاء سورية أي روسيا وإيران ضمن مسار استنة لم يخرج من إطار تحالفه مع الأميركيين، حيث يعاد تدوير الزوايا الحادة بين النظامين عند كل استحقاق لبلوغ مصالحهما المشتركة، فأنقرة مازالت عضواً فاعلاً في حلف الناتو الذي تقوده واشنطن وتصنع سياساته العدوانية والتدخلية، وهو ما يقتل أي إمكانية للثقة بوعود أردوغان أو الركون لنواياه، وقد عرف عنه خلال السنوات الماضية المراوغة والغدر والاستثمار الرخيص في أزمات المنطقة وخاصة في الأزمات التي تعرض لها العراق وسورية ومصر وليبيا..إلخ، والمتاجرة بقضايا الأمة الإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ودعم الارهاب بشتى أشكاله لتحقيق حلم السلطنة المعشش في عقله الاخواني المريض.
استعادة أردوغان إلى بيت الطاعة الأميركي تبدو مطلوبة أميركاً على الأقل في هذه المرحلة، إذ كشف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مؤخراً عن نوايا جديدة لاستهداف إيران، وبالتالي فإن دق إسفين جديد بين أردوغان وشركاء استنة وخاصة إيران أحد الشركاء الاقتصاديين الكبار لتركيا، يمثل هدفاً منطقياً لراسمي سياسات العدوان في واشنطن وكذلك تل أبيب الممتعضة جداً من الانسحاب الأميركي، لأن محاصرة إيران اقتصادياً يتطلب فك عرا التعاون المتزايد بينها وبين تركيا، وهذا ما يدفع لاستنتاج منطقي بأن مساعدة أردوغان بإنشاء «منطقة آمنة» في الشمال السوري قد يكون ثمناً لابتعاد أنقرة عن طهران في حال تم اتخاذ قرار العدوان عليها على نطاق أوسع، وليس سراً أن قمة وارسو الأخيرة قد كشفت عن نوايا عدوانية صريحة تجاه إيران.
لعل السؤال الذي يطرح اليوم ـ وهو سؤال مشروع في ظل التحديات القائمة ـ هل سيسقط اردوغان في فخ المنطقة الآمنة التي ستتحول مع مرور الوقت إلى أكثر المناطق توتراً بالنسبة لتركيا، وهل يستطيع هذا المتورم تحمّل وزر إقامتها بما تعنيه من اعتداء سافر على السيادة السورية وتنصل كامل من ادعاءات أنقرة باحترام سيادة سورية ووحدة أراضيها، وما السيناريو المتوقع حدوثه في حال انزلق نظام أردوغان بطموحاته العدوانية للتفكير بملء فراغ الأميركيين بمرتزقة وإرهابيين لا يختلفون كثيراً عن داعش وجبهة النصرة التي تمكنت بتواطؤ تركي من السيطرة شبه الكاملة على محافظة إدلب وأجزاء من الريف الغربي لحلب في ضربة قاسية لاتفاق سوتشي الذي يضع في قمة أولوياته القضاء على هذا التنظيم الإرهابي المصنف عالمياً..؟!
من المؤكد أن سورية يقظة تماماً للأطماع التركية وهي مدعومة بحالة شعبية مستعدة للمقاومة، وبالتالي لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء انتقال السيطرة على منطقة شرق الفرات أو جزء منها من الأميركيين ومرتزقتهم إلى تركيا ومرتزقتها مع احتمال عودة داعش بقوة إليها بعد أن هزمه الجيش العربي السوري في معظم جيوب انتشاره، حيث شهدت المنطقة تفجيرا انتحارياً قبل أيام يحمل بصمات التنظيم ضد عناصر من القوات الأميركية ومرتزقتها في منبج، ما يعني أن المنطقة المقصودة مرشحة للتحول إلى أرض معركة جديدة وساحة تصفية حسابات بين قوى مختلفة، ولا مفر من عودة النظام التركي إلى رشده والتخلي عن أوهامه ورهاناته، حتى تستقر الحدود الجنوبية لتركيا، وليس هناك من ضامن سوى وجود الدولة السورية بمؤسساتها وجيشها.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأحد 20-1-2019
الرقم: 16889