«مشــاهدُ ســـــوريَّة…»

مشهدٌ أوَّل
أخذتْ الحافلةُ تجتازُ الدُّروبَ الممتلئةَ بالحياة، بينما شمسٌ شتويَّةٌ تسطعُ بخجلٍ علينا، نحنُ العراةُ إلا من دفئِها الذي يمنحُنا ما يشبِهُ الحياة.. لمَحَ كلماتٍ على غِلافِ الكتابِ الذي بينَ يديَّ، استأذنَنِي ليقرَأَهُ طوالَ الطَّريقِ، كانَ ديوانَ شعرٍ عن واقعِ الحياة، حياةِ السُّوريِّين الرَّاهنة، المُعَذَّبين بسُورِيَّتهِمْ ووطنهم حتى الصَّميم، وأخذَ يتصفَّحُ الكتابَ ويقرؤُهُ بدءاً من الغلاف..
كان رجلاً من الطيِّبينَ البُسَطاء، منَ الكُهُولةِ أنْ يستطيعَ تمييزَ الكلام، لكنْ، من ثقافة الحياة والوطنيَّة ماجعلَهُ يتفهَّمُ رُوحَ النُّصوص.. كانَ أكثرَ ما يهُمُّني هو أنْ ألمَحَ أثرَ ما يقرأُ ووقعَهُ على نفسِهِ، وردَّاتِ فعلِهِ، أنا صاحبةُ السُّطُور والقصائد، كانَ كلَّمَا مرَّتْ عيناهُ على عباراتٍ بعينِها، وحيثُ كنتُ أستَرِقُ النَّظرَ والسَّمعَ كيف سيتشرَّبُها باشتهاءٍ غامضٍ، ويطبق عينيه وقلبه عليها ويتمتمُ: «والله صحيح.. »، حتى ينزلَ ردُّ فعلهِ هذا على قلبي ونفسي كالمَاءِ القُراح..
وما إن أدْرَكَ اقترابَ موعدِ نُزولي في محطَّتي القادمة، حتى أعادَ إليَّ الكتاب مُستفسِراً من أين يقتنيهِ، ومن أي مكتباتٍ سيبتاعُهُ.. نزلتُ وفي نفسي ذلك الأثرُ الذي لايُمْحَى وقد شَعَرْتُ بقيمتي في الحياة، إذ لامَسَتْ هذه القصائدُ نفوسَ هؤلاءِ الطَّيِّبين من السَّوادِ الأعظم في وطني، وكلِّ وطنٍ وبلدٍ وأُمَّة، نادمةً لِمَ لَمْ أُهْدِهِ نسخةَ الكتابِ الوحيدةَ تلك، مُرَدِّدَةً تَنَاصَّاً مع «المتنبِّي» الجليل: (أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِناً وَيَداً, أنَا الغَنيُّ، وَأمْوَالي «الأناشيدُ.. »).
مشهدٌ ثانٍ
كان شاباً في مُقتَبَلِ العُمرِ، استأذَنَني بالدِّيوانِ الشِّعريِّ بينَ يديَّ، وهو لايعرفُ من أكونُ، وما إن بدأ بالقراءة بضعَ صفحاتٍ، حتى انثنى إلى المقعدِ وأجهشَ بالبُكاء، نظرتُ إليهِ لبعضِ الوقتِ حتَّى انتبهَ إليَّ وتيقَّنْتُ من أنه كان يبكي حقاً، وقلتُ هل لي أن أسألكَ لِمَ تبكي، تُرى هل تأثَّرْتَ بالأشعار؟ فقال لقد لامَسَتِ وجعي بهذا الوطن، أخي شهيدٌ منذُ تسعةِ أشهرٍ، قضى في دير الزَّور مُدافعاً عن الأرض، وقد أسميتُ مولُودي الجديدَ على اسمه، ولكن عن أيِّ وطنٍ تتحدَّثينَ أستاذتَنا؟ لقد دفعنا خيرةَ أبنائنا وفلذاتِ أكبادِنا وقوداً لهذه الحرب الأقذرِ والأشرسِ على مرِّ التَّاريخ والبلدان؟ وهانحنُ كالغرباء في هذا الوطن السَّحيق في الجُرح، المتعمِّدِ بالآلام حتَّى دماءِ الوريد.. ولهذا بكيتُ..
في الاستراحة، أصرَّ أن يضيِّفني القهوة، بينما كنتُ قد طلبتُ له الشَّاي، فقال لأنَّ أخي كان يحبُّ الشَّايَ فسوفَ أتناولُها، أنا أفعلُ كلَّ ما كانَ يحبُّ أخي الشَّهيدُ أن يفعلَهُ.. رَقَأَتْ أحاديثُ الطَّريقِ دُمُوعَهُ، لكنَّها لم تَدْمِلْ جراحَهُ بوطنِهِ وأخِيهِ، وهو يُحَدِّثُني عن إصابَتِهِ هوَ الآخرُ، وبلائِهِ الحَسَنِ في أرضِ المعركةِ على أكثرِ من أرضٍ سُوريَّة، وَدَّعْتُهُ في دمشق كأنَّهُ من خاصَّة عائلتي وأهلي هُو الشَّهيدُ الحَيُّ..
مشهدٌ ثالث
أخذ يسردُ كيفَ أنَّه وزوجَهُ كانا يتواصلان مع أُسَرِ الشهداء والمفقودين والأسرى طوال الأزمة السُّوريَّة، قال استشهد شابٌّ لعائلةٍ، فتواصَلْنا مع الأمِّ وقدَّمْنا مانستطيعُ، وقلنا لها نحنُ على تواصلٍ تامٍّ، بعد فترة قليلة اتصلَتْ بنا لتقولَ: «هَنِّئُوني لقد استشهد ابني الآخر، وحيثُ لم يتبقَّ لها سوى ولدٍ واحدٍ، أوصينا أن لا ينخرط في ساحة القتال، وليبق بجانب والدته، فذهب سراً، وتطوع في قوَّات الدِّفاع الوطني، وقبل ذهابهِ لمعركة الاستشهاد تصوَّر بالسِّلاحِ واللباسِ العسكريِّ الكاملِ، وأوصى أن لا تُنشَرَ الصُّورةُ إلا بعد تحقُّقِ نبأ استشهادِهِ، وإذ بالأم تتَّصلُ بنا بعد فترة لتقولَ: «باركوا لي لقد استشهد ابني الأخير»..
هؤلاء هم حُرَّاسُ الحُلُم، وصائِنُو التُّراب، وحافِظُو العهد، عهدِ الأجداد الذين دافعوا قديماً عن الأرض لتبقى سورية حرة عزيزة كريمة.. غيضٌ من فيضِ مشاهدَ حيَّةٍ شَكَّلَتْ وتُشَكِّلُ تاريخَ سورية المُعَاصِر، وتكتُبُ بأحرُفٍ من نُورٍ انتصارَها العظيمَ، وصُمُودَها الخَالدَ في سِفرِ الأُمَمِ الأعظمِ على مرِّ التَّاريخ.. ولَسَوفَ لنْ يُحيطَ بما حدثَ من معجزاتٍ قلمٌ، ولافكرٌ، ولا مدادْ.. ولو كانتْ خُيوطُ الشَّمس ذهباً، لنفدَتْ قبلَ أن ينتهيَ هؤلاءِ من حياكَة مجدِ عَلَمِها الشَّامخ المَقدُودِ من دمٍ طاهرٍ ونُورٍ كريم.. عاشت سورية..

 

ليندا إبراهيم

التاريخ: الجمعة 25-1-2019
الرقم: 16894

 

 

 

آخر الأخبار
٥٠ منشأة صناعية جديدة ستدخل طور الإنتاج قريباً في حمص الإعلام على رأس أولويات لقاء الوزير مصطفى والسفير القضاة وزير الإدارة المحلية والبيئة يوجه بإعادة دراسة تعرفة خطوط النقل الداخلي سجن سري في حمص يعكس حجم الإجرام في عهد الأسد المخلوع ميشيل أوباما: الأميركيون ليسوا مستعدين لأن تحكمهم امرأة لجنة السويداء تكسر الصمت: التحقيقات كانت حيادية دون ضغوط الضرب بيد من حديد.. "داعش" القوى المزعزعة للاستقرار السوري من الفيتو إلى الإعمار.. كيف تغيّرت مقاربة الصين تجاه دمشق؟ انفتاح على الشرق.. ماذا تعني أول زيارة رس... تفعيل المخابر والمكتبات المدرسية.. ركيزة لتعليم عصري 2.5 مليار يورو لدعم سوريا.. أوروبا تتحرك في أول مؤتمر داخل دمشق مغترب يستثمر 15 مليون دولار لتأهيل جيل جديد من الفنيين بعد زيارة الشيباني.. ماذا يعني انفتاح بريطانيا الكامل على سوريا؟ فيدان: ننتظر تقدّم محادثات دمشق و"قسد" ونستعد لاجتماع ثلاثي مع واشنطن وفود روسية وتركية وأميركية إلى دمشق لمناقشة ملف الساحل وقانون "قيصر" رغم نقص التمويل.. الأمم المتحدة تؤكد مواصلة جهود الاستجابة الإنسانية بسوريا بين "داعش" و"قسد" وإسرائيل.. الملفات الأمنية ترسم ملامح المرحلة المقبلة المنطقة الصحية الأولى بجبلة.. نحو 70 ألف خدمة في تشرين الأول تفجير المزة.. هل حان وقت حصر السلاح بيد الدولة؟ عودة محطة بانياس.. دفعة قوية للكهرباء واستقرار الشبكة نحو شوارع أكثر نظافة.. خطوات جديدة في حلب