تطرح لوحات الفنان التشكيلي محمود الجوابرة، من جديد شعار الأصالة والمعاصرة، في خطوات التعبير عن أزمة الإنسان والعصر. لاسيما وأن العناصر التاريخية، التي يستعيدها في كل مرة, تعكس جدلية العلاقة التاريخية بين الخير والشر في الأزمنة الميثولوجية والمعاصرة.
وهي لوحات لإثارة الأسئلة، لان التشكيل التعبيري الذي نجده في حالات التلوين والتكوين، يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، ويدخلنا في جوهر الحالة التعبيرية والرمزية، والتي يعمل من خلالها لإبراز الصور المتداخلة بين الإشارات والرموز البدائية، لاستعادة تخيلات الصور المحمية على جدران الأزمنة المنسية.
تمزقات المجتمعات الاستهلاكية
وفي هذه العودة الى الماضي الأسطوري المجسد في لوحاته، يستخلص الدلالات والدروس والنتائج المعبرة خير تعبير عن تمزقات المجتمعات الاستهلاكية، وما فيها من أزمات وأسلبة وكوارث وحروب. فهو يرتبط بإيقاعات تشكيلية قديمة وحديثة في آن، ويذهب إلى هذا التحوير والتلخيص والعفوية، فيجسد أحياناً الأشكال الإنسانية والحيوانية وخاصة الثور، مهتما باستقلاليتها، وبما يجري داخل مساحاتها من إضاءة، تدخلنا إلى أغوارها، ولا تتوقف فقط عند شكلها الخارجي.
ولا نستطيع أن نحصر تجربة محمود الجوابرة، ضمن توجه فني محدد، لأنه في تنقلاته يتجاوز التصنيفات, رغم ما للتعبيرية الرمزية من تأثير على لوحاته، وهكذا يقدم نفسه ضمن دائرة تجعله غير محصور بتعبير محدد، وغير مختصر بسمة مدرسية ضيقة، فاللوحة بالنسبة إليه يمكن أن تأتي بمعالجات وتقنيات مختلفة، رغم أنها تحافظ على الروح الذاتية الواحدة.
إن حضور الأشكال في لوحاته (المرأة والرجل, والجماعة الإنسانية، والثور والحصان, والشمس.. وغيرها) يدخلنا في جوهر السرد القصصي الاسطوري، والأداء اللوني والخطي العفوي والتلقائي, وفي معظم اللوحات يغيب الشكل الواقعي، في ذلك الأداء التشكيلي الحديث، ويدخل في رمزيته الخاصة، بحيث تتحول الحكاية الأسطورية إلى فسحة تأمل زاخرة بالإشارات والرموز والتعابير التاريخية والذاتية والروحية والإنسانية.
دراما الحياة المعاصرة
هكذا تعبر لوحاته الجديدة عن دراما الحياة المعاصرة المشحونة بالعنف والتوتر اليومي والمرتبطة بانكسارات الزمن وبأجواء الحرب, ولهذا لا يمكن وضع حدود بين لوحاته الأحدث، وخاصة التي قدمها في معرضه الأخير بصالة «الآرت هاوس» والإحساس بأزمة الحروب والمجازر التي وقعت على الأرض السورية.
وتظهر تأثيرات الواقع المتفجر بشكل غير مباشر في نسيج لوحاته، من خلال استعادة الرموز الحضارية السورية, وعبر «الكونتراست» اللوني، الذي ينقلنا من أمكنة النور إلى الزوايا المظلمة. فهو يؤكد في لوحاته الجديدة أن الحالة التعبيرية الأسطورية، هي المدخل الحقيقي للتفاعل مع الحياة المشحونة بأحداث الحروب، إنها جدلية متواصلة تؤمن بالتفاعل مع الواقع، ومعايشة تساؤلات فصول الحروب، والاستجابة لقدرة اللوحة الحديثة على التعبير عن الواقع الإنساني المأساوي الموجود في عالمنا الراهن.
بين الخافت والمضيء
ويذهب في أحيان كثيرة إلى جعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات لونية مضاءة, وبذلك تتدرج الحالة اللونية, من تلك الباهتة أو القاتمة التي يغلب عليها اللون الداكن وتدرجاته، إلى أخرى تغلب عليها درجات من الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض وغيرها.
وهكذا يضعنا أمام تنوع بارز في أسلوب المعالجة، للأشكال والألوان والإضاءة (أشكال مضاءة على خلفية لونية معتمة).. كما يحول عناصر الطبيعة، إلى علاقات إيحائية عفوية، فيعتمد أحياناً على تشكيلات توحي بالإضاءة، مكثفاً بشكل لافت مساحات اللون المضاء، الذي يؤدي التعبير بعفوية تتوافق مع التأليف العام للوحة. وبعض اللوحات تبدو منفعلة، على عكس لوحات أخرى تبدو متجهة نحو التعبير اللوني الملطف والهادىء، وهذا ما نلاحظ من خلال تبديل مستوى وضوح الشكل الواقعي، بين لوحة وأخرى، فتتدرج اللوحات من التشخيص إلى التأويل، الذي يستخدمه أحيانا خارج إطار تحديد اللوحة بشكل أو بمعطى له دلالة مرتبطة بالواقع، كما تشكل لوحاته عودة لجمالية الأجواء الروحانية والعناصر الأخرى.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الثلاثاء 29-1-2019
رقم العدد : 16896