في هدوء مابعد الحرب ثمة ماهو أكثر خطرا من ضجيجها، ربما لاتهددنا رصاصة، وقد لاتنال منا قذيفة، لكن هناك من يعيث الفساد في أرجاء الكون وينفث السموم في سمائنا ويعمل الحقد والكراهية والأنانية كمعول هدام يحاول أن يقض مضجع الساكنة قلوبهم ويشوه علاقاتنا الإنسانية حتى ليكاد يحيلنا في غير مكان إلى شريعة كانت في مرحلة هي من تقود الغاب.
وأستميح القائمين على مسلسل «مسافة أمان» لاستعارة عنوانهم الذي يشي بما نكابده كل يوم في البحث عن تلك المسافة الآمنة في ظل تفشي سلوكيات وأخلاقيات تفسد العلاقات الإنسانية وتملأ النفوس ألما وحسرة على ما آل إليه حال البشر من تشرذم وسعي نحو الخلاص الفردي، مايؤدي إلى التفكك في العلاقات، والضعف في رابطة الحب، لتصبح الحاجة أكثر إلحاحا لإيجاد مسافة الأمان تلك.
والمفارقة العجيبة أن الكثير من الكتب تجتاح رفوف المكتبات كل يوم، والعديد من الفنون الدرامية والمسرحية والسينمائية تتصدر عناوين الصحف والمجلات، وجميعها تحمل لواء الدفاع عن القيم الإنسانية والنهوض بالمجتمعات والارتقاء بالذوق العام الذي يواكب تلك القيم الأخلاقية، ولكن يبدو أن ثمة واد سحيق يفصلهما عن المجتمع فلا عين ترى ولا أذن تسمع، والحال يزداد سوءا، وتقف تلك النتاجات جميعها عاجزة عن رأب الصدع الذي خلفته الحرب في النفوس.
إذ كيف نعيد للأدب رسالته في تحقيق ذاك التوازن الذي يحيلنا إلى عالم الفضيلة والخير، وكيف نحيي في الفنون ألقها وأهدافها في تحقيق العدالة الإنسانية، وقبل كل ذلك كيف السبيل إلى ترميم ماتهدم من بناء الإنسان ونحن ندرك تلك الغربة التي يعيشها في وطنه وبين أبناء جلدته متطلعا إلى خلاص يتحصل عليه بمعجزة إلهية.
المهمة لاشك صعبة ولكنها في الآن نفسه ليست مستحيلة ومسافة الأمان هذه تبدأ بخطوة، فعجلة الحياة تدور لتطوي بين جنباتها دموع الثكالى وتمسح على جبين طفل تآكلت أسرته في رحى الحرب، والخسارات باتت صفقات في عالم النسيان، ولتكن مسافة الأمان هي بوصلتنا نحو المستقبل بقلوب ملؤها فيض خير يعيد صقلنا من جديد.
فاتن دعبول
التاريخ: الثلاثاء 5-2-2019
الرقم: 16902