في مثل هذا اليوم الموافق للرابع عشر من شباط من عام 1982 بدأ أهلنا الميامين في الجولان السوري المحتل إضرابهم الكبير احتجاجاً على القانون التعسفي الظالم الذي سنه الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 14 كانون الأول من العام 1981، والذي بموجبه تم تشريع ضم الجولان السوري المحتل لكيان الإسرائيلي واعتباره جزءا لا يتجزأ من الأراضي التي اغتصبها في نكبة 1948 ونكسة 1967 وذلك في انتهاك صارخ لكل الأعراف والقوانين والقرارات الدولية وتحدّ لمشاعر وإرادة أصحاب الأرض الشرعيين.
لم يكن قرار الحكومة الإسرائيلية حينها ارتجالياً، وإنما جاء تحقيقاً لحلم قديم وتتويجاً لأطماع زرعت بذورها في كتابات الصهاينة الأوائل، الذين رأوا في الجولان كنزاً يجب ضمه إلى الدولة المزمع إقامتها، فقد ورد في كتابات دافيد بن غوريون، التي تعود إلى العام 1918، لا بد لإسرائيل من أن تضم قضاء القنيطرة، ثم جاء وايزمن في مؤتمر سان ريمو عام 1920 ليقول بالحرف: «وضعت المنظمة الصهيونية، منذ البدء الحد الأدنى من المطالب الأساسية لتحقيق الوطن القومي اليهودي، ولا داعي للقول إننا لن نقبل، تحت ظرف من الظروف، خط سايكس بيكو، كأساس للتفاوض، لأن هذا الخط لا يقسم فلسطين التاريخية ويقطع منها منابع المياه التي تزود الأردن والليطاني فحسب، بل يفعل أكثر من ذلك، إنه يحرم الوطن اليهودي بعض أجود حقول الاستيطان في الجولان وحوران، التي يعتمد عليها المشروع بأسره إلى حد كبير».
أسباب الإضراب
لم يستغرق الكنيست الإسرائيلي سوى يوم واحد وثلاث قراءات متتالية للمصادقة على قرار الضم الجائر الذي تقدمت به حكومة الإرهابي مناحيم بيغين آنذاك، وقد تضمن القرار تطبيق القانون الإسرائيلي على هضبة الجولان، ليأتي تتويجاً لسياسات الاحتلال العدوانية الممارسة تجاه الجولان ومواطنيه السوريين منذ عام 1967 كسياسة أمر واقع، حيث كان يدار الجولان بأوامر عسكرية إسرائيلية من أجل فرض سلطة الاحتلال على السكان الذين تجذروا في أرضهم ورفضوا إجراءاته وقراراته غير القانونية وقاوموا محاولاته اليائسة لفرض هويته عليهم.
ففي 17 كانون الثاني من العام 1982 أصدر وزير داخلية الاحتلال أنظمة إدارية تقضي بفرض وتوزيع الجنسية الإسرائيلية على سكان الجولان خلال مدة أقصاها الأول من تشرين الأول1982، فتصدى الجولانيون لهذه الممارسات، عبر اتخاذ العديد من الخطوات التحذيرية، بما في ذلك تنفيذ جملة من الإضرابات التحذيرية التي استمر كل منها ثلاثة أيام، كما بادروا إلى عقد اجتماع جماهيري في قرية مجدل شمس في التاسع من شباط 1982 ضم مواطني أربع قرى هي مجدل شمس، مسعدة، بقعاتا وعين قنية، أعلنوا فيه عن استنكارهم وإدانتهم الشديدين لقانون الضم ومحاولات فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم، وأمهلوا الحكومة الصهيونية مدة 15 يومًا لإلغائه، ولكنها تجاهلت احتجاجهم ومطالبهم فقاموا في الرابع عشر من شباط بتنفيذ إضراب مفتوح يعتبر من أطول الإضرابات في التاريخ، لإجبار إسرائيل على التراجع عن فرض جنسيتها عليهم بالقوة، وبعد ستة أشهر من الإضراب والحصار، وبعد تبلور ظروف إقليمية وعالمية غير مواتية كان من بينها الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت، تم الإعلان عن إنهاء الإضراب بعد أن حصل أهلنا في الجولان على ضمانات بعدم فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم.
مطالب أهلنا
طالب مواطنو الجولان حكومةَ الاحتلال الإسرائيلي، باحترام مشاعر السكان الوطنية والقومية، والكف عن الممارسات الإرهابية والإجرامية بحقهم، والإفراج عن كافة المعتقلين، وإلغاء قرار الضم والإلحاق، والكف عن محاولات فرض الجنسية الإسرائيلية، ويمكن إيجاز المطالب بما يلي:
– إلغاء قانون ضم الجولان، واعتبار الجولان منطقة محتلة من قبل جيش المحتل الإسرائيلي.
– إطلاق سراح كافة المعتقلين.
– الكف عن مضايقة السكان وعدم المس بالمصالح والممتلكات التي يملكها السكان، عدم تبديل الهوية العسكرية بأي هوية مدنية أخرى.
– إعادة الأراضي والأملاك المصادرة، والسماح لسكان الجولان باستخدام مياههم.
– معاملة سكان الجولان حسب المواثيق الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية.
الاحتلال وسياسة القمع
وعلى عادة سياسة الاحتلال القمعية فقد قوبل إضراب أهلنا في الجولان بخطوات تصعيدية من قبل الاحتلال، وانتهاج سياسة العقوبات الجماعية بحقهم، حيث أُعلِنت القرى الأربع منطقة عسكرية مغلقة، استنادًا إلى أحكام المادة 125 من أنظمة الطوارئ لعام 1945، وبحلول 31 آذار فرضت قوات الاحتلال نظام منع التجول على القرى الأربع، وذلك حتى 2 نيسان 1982، حيث أُجبر السكان على البقاء داخل منازلهم، وعدم الخروج إلى الطرقات أو ساحات البيوت أو فتح الستائر والنظر إلى الخارج. وقد انتشر آلاف الجنود في كافة القرى، وباشروا باقتحام البيوت وتوزيع الجنسيات الإسرائيلية على العرب بتسليمها لهم باليد، لكن هذه الإجراءات قوبلت برفض قاطع من قبل المواطنين، فكانوا يلقون بالهويات إلى الشوارع، وبعد انتهاء قوات الاحتلال من مهمة التوزيع ومغادرتها القرى في صبيحة 3 نيسان، خرج المواطنون إلى الشوارع، وقاموا بجمع الهويات وإحراق قسم منها في الساحات الرئيسية للقرى، وإرسال القسم الآخر بطرود بريدية إلى الكنيست الإسرائيلي.
فشلت السلطات الإسرائيلية في كسر الإضراب، نتيجة مقاومة أهالي الجولان. وقد أُعلن إنهاء الإضراب في 20 تموز 1982 أي بعد قرابة ستة أشهر، وذلك على أثر تعهد السلطات الإسرائيلية بالتراجع عن قرار فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم.
تأثيراته ونتائجه
استمر الإضراب العام والمفتوح قرابة ستة أشهر وأدى إلى شلل تام في كل أنحاء الجولان المحتل، غير أن مقاومة الجولانيين لقرار الضم لم تكن بلا ثمن حيث عانوا نقصا شديدا في الدواء والعلاج والغذاء، ولا سيّما الأطفال، بعد أن أحرق عملاء الاحتلال مخازن علف المواشي، في حين كان غزو لبنان أحد أسباب إنهاء الإضراب في العشرين من تموز 1982، إضافة إلى رغبة «إسرائيل» في تهدئة الأوضاع الداخلية، وتحول اهتمام الرأي العام المحلي والدولي إلى ما يحدث على الساحة اللبنانية، بعد أن كان الاهتمام على الساحة الجولانية.
كان قرار إنهاء الإضراب شعبيًا في اجتماع عام حضره الآلاف من المواطنين، حيث استعرضوا النتائج التي أفرزتها المفاوضات وأهمها: الامتناع عن فرض الجنسية الإسرائيلية على السكان إلا لمن يطلبها دون ضغوطات، ومنع التجنيد الإجباري في جيش الاحتلال، وإطلاق سراح كل المعتقلين السوريين دون شروط، وإبراز اسم هضبة الجولان في بطاقة الهوية محل اسم «إسرائيل».
باختصار أظهر ذلك الإضراب حقيقة وأصالة أبناء الجولان السوري المحتل إذ عبروا عن رفضهم للاحتلال وإجراءاته غير القانونية وأكدوا ارتباطهم بوطنهم الأم سورية وعدم استعدادهم للتنازل أو المساومة على أي ذرة من ترابها مهما كانت الإغراءات المعروضة عليهم المقدمة لهم أو التهديدات والمخاطر التي يتعرضون ليؤكدوا في كل مناسبة أنهم مخرز في عين الاحتلال وصخرة صلبة في وجه أطماعه وطموحاته.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 14-2-2019
رقم العدد : 16909