قبل أن ترحل بريطانيا مكرهةً عن الهند أصدر البرلمان البريطاني عام 1947 قانون استقلال وتقسيم الهند، ومنحوا الولايات الحق في الانضمام إما إلى الهند أو إلى باكستان. فتسببت سياستها الاستعمارية في حربٍ تسخن وتبرد منذ 72 عاماً في شبه القارة الهندية التي كانت تعتبرها درة تاجها الإمبراطوري، وكان التقسيم تم على أسس دينية إحداهما للهندوس والبوذيين (الهند)، وأخرى للمسلمين (باكستان). مع أنه لم يكن يوماً التقسيم أياً كان شكله شرطاً كافياً لبناء دول مستقرة لأن تجربة باكستان خلال سنوات الاستقلال تؤكد عبثية الاعتقاد بأن الرابطة الدينية شرط كاف لبناء دولة قومية مستقرة، لأنه طفت المجموعات العرقية واللغوية الباكستانية على السطح وشعرت بأن الانقسامات بينها أقوى من الرابطة الدينية. وفي المقابل أدى تبني النخبة الهندوسية مفهوماً علمانياً للقومية والهوية إلى نتائج مغايرة للتجربة الباكستانية. فقد كان ذلك عاملاً مهماً لتطور نظام سياسي قادر على استيعاب حالة التعددية الدينية واللغوية الشديدة داخل الهند.
وعند التقسيم كلفت بريطانيا رجلاً بريطانياً واحداً فقط بمهمة رسم الحدود التي قسمت الهند، التي كان عدد سكانها آنذاك يناهز 400 مليون نسمة، فأنهى التقسيم على عجل وتسبب بكثير من الإحباط والحزن لأغلبية الهنود والباكستانيين، وأدى ذلك إلى مستوى عنف كبير بأضعاف ما حصل من صدام بين المسلمين والهندوس قبل الاستقلال.
فعندما أعلن قرار التقسيم نزح 12 مليون لاجئ إلى باكستان وبالعكس، وقتل في العنف الطائفي نصف مليون شخص كما اختطف عشرات الآلاف من النسوة، بسبب أنه لم يتقرر عام 1947 انضمام كشمير للهند أو باكستان، والسبب في ذلك أن بريطانيا أعطت للولايات التي كانت تحكمها سابقا بالهند حرية الانضمام للهند أو باكستان وفقاً لرغبة سكانها، ليبقى لها في المنطقة يد لتعبث فيها عندما تسنح الفرصة.
أما من جهة تحقيق استقرار في شبه القارة الهندية التي بني عليها الانفصال فإن التقسيم لم ينهِ حالة الصراع بين المسلمين والهندوس، ونشبت 4 حروب بينهما، الأولى عامي 1947 ـ 1948 وخاضتا معركة حول منطقة كشمير التي كانت قد استقلت سابقاً. وفي عام 1965 أيضاً وفي عام 1971 انخرطا أيضاً في الحرب الأهلية الدائرة شرق باكستان والتي أدت إلى ولادة بنغلاديش. وفي عام 1999 تصادمتا للمرة الرابعة في جبال كشمير. وعلاوة على هذه الحروب فإن البلدين أوشكتا على الاشتباك مرتين خلال الخمسين سنة الماضية مع فترات تأزم عديدة. وعلى رغم أن هذا الصراع دار بالأساس حول إقليم كشمير بسبب عدم اتفاق الطرفين على حسم مستقبله بعد تطبيق قرار التقسيم، ولكن لا يمكن اختزال الصراع على هذا النحو إذ يمكن القول إن الصراع على كشمير مثل في شكل ما أداة لتأكيد الهويات المتناقضة والحفاظ على الأدوار التاريخية لكل دولة منهما.
وأولى نتائج تلك الحروب وخاصة الحرب الأولى عام 1949 أن انتهت بتقسيم كشمير ذي الاهمية الذي يتمتع بثروات طبيعية وطبيعة خلابة، فمن جهة الهند، هذا الإقليم له أهمية إستراتيجية خاصة بعد أن تمكنت الصين من السيطرة على التيبت وتطور النزاع الهندي الصيني آنذاك على طول الحدود في جبال الهيمالايا. كما تعتبره باكستان خط دفاع حيوياً ووجود الهند فيه سيهدد كيان باكستان، هذه الأهمية الاستراتيجية لكشمير سبب خوض هذه الحروب علماُ أن المسيطر على هذا الإقليم سيستفيد من ثروات الإقليم وكذلك أهمية صلته الجغرافية مع الدول المجاورة وخاصة الصين وأفغانستان.
وانتهت الحرب الأولى بتقسم كشمير وتوقَّف إطلاق النار بين الدولتين بعد وساطة من الأمم المتحدة، وأصبح وقف إطلاق النار نافذ المفعول في كانون الثاني 1949، ولم تفلح الحرب الثانية عام 1965 في تغيير هذا الوضع ونجحت وساطة دولية قام بها رئيس وزراء بريطانيا، هارولد ولسن، في تخفيف حدة التوتر والتوصل إلى اتفاق نصَّ على وقف إطلاق النار في ران كوتش، وانسحاب الحشود العسكرية بالبنجاب، والعودة إلى حالة ما قبل الحرب.
في حين أسفرت الثالثة عام 1971عن تقسيم باكستان نفسها إلى دولتين بعد انفصال باكستان الشرقية وتأسيس جمهورية بنغلاديش، وتوقيع اتفاقية سيلما عام 1972، برئاسة الرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو ورئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي. وانقسمت كشمير إلى جزأين: الأول خاضع للسيادة الهندية ويسمى جامو وكشمير بعاصمته سرينغار، والثاني تسيطر عليه باكستان وعاصمته مظفر آباد.
وتسبب هذا الصراع المزمن بتكاليف اقتصادية ضخمة سببها الإنفاق العسكري الضخم ولا يمكن إغفال ما يعرف بتكلفة الخسارة في الفرصة البديلة التي تمثلها المكاسب الاقتصادية التي كان من الممكن تحقيقها في وجود علاقات طبيعية بين البلدين، وخصوصاً في مجالي التجارة والطاقة.
وإزاء هذه التكاليف ظهرت اتجاهات تدعو إلى مراجعة طبيعة هذا الصراع. فمثلاً دعا بعض من النخبة الباكستانية إلى إعادة النظر في إدارة الصراع بشأن كشمير. وعلى الشطر الهندي، شهد العقد الأخير ظهور توجه داخل المجتمع يدعو إلى إعادة تقيـــيم السياسة الهندية تجاه كشمير والعلاقات الهنديــة الباكستانية ما أدى إلـــى تزايد الإدراك بأن مشكلة كشمير قد حملت الهند أعباء سياسية واقتصادية كبيرة.
ولم يتوقف أوار الصراع على مدى السنوات التي أعقبت الاستقلال، ظلت تشتعل وتبرد، وتكونت جماعة باسم «جيش محمد»، وقررت إعلان النضال المسلح من أجل ضم كشمير إلى باكستان.ورغم اتهام الهند لباكستان بأنها توفر الملاذ للجماعة (الإرهابية) فإن الجماعة استهدفت أهدافاً تابعة للجيش الباكستاني.
وقد عبرت دول كثيرة عن مخاوف من اندلاع صراع ذري بين البلدين عام 1998. وقد قدّم الباحثون فرضيات متنوعة ومختلفة حول أسباب الصراع لأن الاختلاف في الدين لا يفسر وحده كل هذه الحروب. ويقول البعض إن سبب الصراع يعود إلى الممارسات الاستعمارية البريطانية. فالاستعمار ركز على الانقسامات الطائفية لكي يسيطر بعد أن استخدموها لمصلحتهم، ولذلك عملوا على نعرات أدت إلى تدمير معابد للهندوس في بعض فترات التاريخ. وهناك سبب آخر يقدّمه البعض بأن سبب اندلاع الصراع بين البلدين يعود إلى التحالف العسكري الأميركي الباكستاني الذي تم في نهاية الأربعينيات فهذا التحالف قوى من النزعة العسكرية الباكستانية وحول باكستان إلى مجتمع عسكري. ومن ثمّ فإن العسكر الباكستانيين في معظم الفترات راحوا يغذّون العداء الهندي الباكستاني لأنه مبرر وجودهم في السلطة. ويصل الأمر ببعض المحللين إلى حد اعتبار أميركا المسؤول الأول عن إشعال فتيل هذا الصراع التاريخي الذي يقيم على أنه مبني على الخلاف الإيديولوجي الذي ظهر بين النخبة الهندية والنخبة الباكستانية إثناء الكفاح ضد الاستعمار ومهما يكن من أمر فإن القوى الخارجية لعبت غالباً دور المحرض على الانقسام بين الطرفين وفي طليعة هذه القوى بريطانيا التي لم ترق لها خسارة جوهرتها الهند. ولذلك شجعت الحركات الانفصالية، رغم أن شبه القارة الهندية شعب واحد رغم تعدد الطوائف والأعراق.
وفي القرن الحادي والعشرين لم ينتهِ الصراع رغم محاولات الوساطة والمصالحة التي تقوم بها إطراف دولية عديدة. وكل الصراعات انتهت تقريباً ما خلا الصراع الهندي الباكستاني، والصراع العربي ـ الاسرائيلي، لأن إسرائيل محمية الغرب في المنطقة ومحظيته المدللة، الذي سخر من أجلها كل التكفيريين لهدم الدول العربية التي تناهض هذا الكيان الغاصب وتريد تحرير الأراضي العرابية المحتلة.
وكذلك فإن تغذية الاستعمار للجماعات والمدارس الدينية التكفيرية في باكستان وامتدادها إلى كشمير عامل آخر يضاف لتأجيج الصراع بأي وقت، والسلفيون في كشمير الفتيل الذي قد يشعل قنبلة بأي وقت. فقد عاد التوتر إلى الأجواء بعد اتهام الهند لبعض الجماعات الكشميرية التي تتخذ من باكستان مقراً لها بالضلوع في الهجوم الأخير (14 شباط) الذي يشبه هجوم كانون الأول 2001، وتدعو الولايات المتحدة، كلاً من الهند وباكستان إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد بعد زيادة حدة التوتر بينهما خلال اليومين الماضيين نتيجة تبادل إطلاق النار عبر الحدود في كشمير، وبعدما شنت طائرات هندية غارات جوية داخل باكستان ضد أشخاص يشتبه في أنهم إرهابيون.
وكلمة ضبط النفس نسمعها كثيراً من أميركا ومن الغرب في الصراع العربي الإسرائيلي ولا يستبعد أن الغرب الاستعماري يريد توتير الأجواء على حدود الصين كي يتدخل في المنطقة، لأن الولايات المتحدة، لم يعد لديها بديل سوى البحث عن وسيلة لإيقاف نمو الصين، ولو بحرب مدمرة حولها، وإلا فسوف تتفوق عليها الأخيرة، وعندها ستكون الولايات المتحدة الدولة الثانية في ترتيب الدول العظمى وسيفقد الدولار مكانته كعملة عالمية، ومعه ستفقد الولايات المتحدة إمكانية رفع سقف ديونها الذي تتلاعب برفعه بلا حدود، ومن ثم تفقد الازدهار ومستوى الرخاء لديها، الأمر الذي يهدد بتفجير أميركا من الداخل، بالنظر إلى المكونات العرقية للمجتمع الأميركي الشديدة التعقيد، وما يرتبط بها من مشكلات طبقية واجتماعية، وهو ما يمكن أن يقذف بالبلاد إلى فوضى الحروب الأهلية والعرقية وسيتكرر مشهد انهيار الإمبراطوريات ولكن بشكل أكثر دموية وعنفاً، فهل يمكن أن تكون الأصابع الأميركية حاضرة لتأجيج الصراع بتحريض من بريطانيا؟
منير الموسى
التاريخ: الجمعة 1-3-2019
الرقم: 16921