لِفَرْطِ رُوحِي، نسِيتُ، وَبكيْتُك، فالدُّنيا بأسْرِها، لا تُعَادِلُ إجهَاشَةَ بَكاءٍ على صَدرِك الرافل بالياسمين.
كنا هناكَ، حيثُ ضفَّتا الحنين، ومضاربُ اللوزِ، حينما أخذَتْ عصافيرُ هواكَ تنقُرُ على «بابِ القصيد»، هناكَ، وحيثُ تآلفَ وجهُكَ مع وجعي، راحت يماماتُ دمعي تلتقطُ حبَّاتِ الشَّوقِ عن خطواتِكَ المُسافرةِ أبداً، هناكَ، حيثُ أخذَ اللهُ يمسَحُ على صفحة وجهكَ القمريِّ، بينما روحي تنثالُ على وجنتكَ المعشَّقةِ بالضَّبابِ العائدِ من موعدِ حنيني معك…
وبِصَبرِ النَّاسكِ، رحتَ تستَدرِجُ يقينَ الغيب، لِحُلُمٍ يقينٍ في روحِك… كنت في تلكَ النُّقطةِ المركزِ، على التُّخومِ الرَّماديَّة بين «يقين الناسِكِ وحُلُمِه»، ترقبُ من صومعتك في الغيم لحظةَ تتوافقُ فيها «روحُك» مع «خاطر الغيبِ، لتنبلجَ عن أنثى عليَّة كاملة التَّأنيث، خالصة الضِّياء…
كنتُ سأمضي لهاويةِ الحنينْ، لو لم يَردَعْني هَوَاك…
كُنتُ سأمضي لحَتفِ رُوحي، لولا يداكَ مَهَّدتا مطارحَ السَّكِينَة، فأويتُ إليهما عصفورةً بلَّلها تهطالُ عينيك. لم أعرف للعيون ندىً إلا مُذ عرفتُهُما، ولم أدر كيفَ يقرعُ الحبُّ أزمنتي، ويلجُ زائراً حائراً غريباً أثيراً، إلا بقدومِكْ…
كنتُ أوصدتُ بوابات الرِّيح كيلا تدهَمَني رياحُك، لكنْ ها هيَ نُذُرُ الخريفِ الشَّجية تلوح في أفقِ روحي العارية، وثمَّة طيفٌ لوجهِكَ الجميلِ الجليلْ…
أيُّها الزّمانُ أعِدْ إليَّ قميصَ حبيبي، وأنا أعاهدُكَ أن أحرسَ نجومَكَ، وأسهرَ على فرحِ عشَّاقِكَ، وأطعمَ عصافيرَكَ الأبديَّةَ، أعاهِدُكَ أن أروي نرجساتِكَ في السُّهوب، وأرعى وُعُولَكَ البَرِيَّةَ في حقول القصب، أن أحرسَ نومَ الصَّبايا وأغنياتِ الرُّعاة العائدين مع الضُّحى…
أعاهدُكَ أن أنثُرَ القمحَ في البيادر، وأخزنَ النَّبيذَ في الدِّنَان، أن أسكنَ عيونَ الأطفال، وأحفظَ ثرثرة النِّسوة العائدات من حمَّامَات مدنكَ العتيقة…
أعاهدُك أن أكون بحَّة النَّاي، وشجوَ المزامير، دموعَ النُّسَّاك، ونحيب المُحِبِّين على ديار «ليلى», أعاهدُكَ أن أكون النَّجمةَ لقمركَ، والنورَ لشمسكَ، والحزنَ في قلوبِ حُكَمائِكَ، و الحُبَّ في أرواحِ شعرائك، أن أكون تراتيلَ الرُّهبانِ في أديِرَتِكَ، وشوقَ المُؤمنينَ إلى الله…
فقط، أعِدْ إليَّ قميصَ حبيبي..أيُّها الزَّمانْ…!
تماماً.. كأيَّامي المهروقَةِ على عتبَاتِ اشتهَائك، كَعُمري المَصْلوبِ على خشباتِ انتظارِك، تأتي فارساً من ملاحمِ روما، أو إلياذاتِ الإغريق، بحنطة وجهِكَ التي لاتخطِئُها روحي، وهناك، في عليَّة الحُبِّ، حيثُ شرفاتُ الرَّغبة وبيتُ الفتنة المُسَوَّرِ بالبياضِ المُشتهى، المؤثَّثِ بخوابي اللذَّة، حيثُ مَدَاراتُ دهشَتي، راحت يداكَ تُرَاوداني،ٍ وروحانا ترقُصَان بهجة.
كنتَ متوَّجاً بالحبِّ، تحفُّ بكَ خيولُ الرَّغبَة، وتصهَلُ لأجلكَ أفراسُ الشَّوق، بينما روحي تتبعكَ قبراتِ لهفة، وعصافيرَ نشوة.
كنتَ «أوديسيوس» الذي انتظرتُ، وكنتُ «بينيلوبي» حارسةَ وقتِ غيبَتِكَ، والتي حاكَت لكَ عمرَها كلَّهُ على نَولِ الانتظار…
كم نسجتُ ثوب اللقاء لتأتي…!! كم أعدتُ نسجَهُ، وإذا بي أعيدُ تكوينكَ وأبعثكَ إلي!.
خالقتُكَ أنا، واهبتُكَ اللذَّةَ والاشتهَاءَ، مانحتُكَ الحنين.
امرأةُ الحزن الشفيف أنا، امرأة الغبطة، امرأة المرايا، أنا «هيلين»، أنا «أثينا»، أنا «بديعة» «محمد عمران»، أنا «المجدليَّة»، أنا «زليخا» عاشقةُ الله، عاشقتُك، أنا «البتولُ، امرأة «لوط»، جارية «سُليمانَ»، قِدِّيسَةُ المَعبَد، عَرُوسُ الزَّمان.
سأرفُو روحيَ المتهرِّئَةَ منْ عذابِ انتظَاركْ، وأنضُو عنها الثَّوبَ تلوَ الآخر، لا يهمُّني البِلَى، بلْ تهمُّني ريحُكَ المُستَحيلةُ، وعيناك الشَّهيَّتان الشذيَّتان…
سيِّدَ الرَّغَبَاتِ الغَامضةِ السِّريَّة، والأعشاشِ الموغلة في السِّرِّ، والعِتقِ، والقِدَم، والفتنة..!
المَطَرُ، يقرَعُ نوافذَ الرُّوح ربيعياً رتيباً هادئاً، لكنَّني مع هذا أشعر بعاصفةٍ هوجاءَ هادرة في أعماقي. كان من الواردِ والحال هذهِ، أن أشعرَ بالسَّكينة أكثرَ، وبالحميميَّة لما لديَّ من حطبٍ في حقول الذَّاكرة مشتعلٍ كموقدٍ في كانون، ومع حبيبي المسكونة به هذه الرُّوح، من الواردِ أكثرَ أن أشعر بالطُّمأنينة والسَّلام، لكنَّ الشُّعورَ المُعاكسَ هو ما أشعُرُ به…
حسناً، هي مجرد خربشاتٍ على صفحة الرُّوح، لن أغلقِ البابَ معها لعصفٍ قادمٍ، سيكونُ أفضلَ ما يفعله إثارة مكامن الرُّوح أكثر فأكثر، وإطلاقها من إسارها..
المطَرُ يتابعُ انهمارَهُ ربيعياً هادئاً رتيباً، لكنْ مخيف،
إنَّها الرُّوح و»ثورتُها «العادلة!!
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 8-3-2019
الرقم: 16927