الملحق الثقافي..د. محمود شاهين:
ضمن سلسلة موسوعته الفنيّة العالميّة، توقف الدكتور ثروت عكاشة عند (الفن الهندي) الذي يعتبر ابن مجتمعه، والمعبّر الصادق عن عقائده وبيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة. وللفن والأدب في الهند أنساق خاصة، يتناول من خلالها الفنان أو الكاتب موضوعه ليقنع به المتلقي بطريقة غير مباشرة، وذلك باستخدام عناصر جذابة متنوعة مثل الفكاهة أو الهزل أو التعاطف أو الشفقة أو البطولة أو الترويع أو الطمأنينة أو الإثارة الجنسيّة أو الدهشة، فضلاً عن عناصر أخرى مكملة تلهب المشاعر، كمشهد ضوء القمر، أو إقبال الربيع، أو النسيم العليل، أو قطرات الندى، أو زخات المطر، إلى جانب استثارة المشاعر كالنظرة الخاطفة المعبّرة، واليأس والشك والغيرة.
خواص ومقومات ومقارنات
يقول الدكتور عكاشة إن الفن الهندي نشأ في البداية متحرراً متنوعاً، ثم ما لبث أن أصبح أسيراً لنواميس فنيّة جامدة مستقاة من التقاليد والأعراف الهنديّة، فغدا فناً كهنوتياً بعد أن ظهرت كتب تضم قواعد وأصولاً تلزم الجميع بالتقيد بها. وكما كانت اليونان هي النبع الذي استقى منه الفن الأوروبي، كذلك كانت الهند هي مهد الكثير من الطرز الفنيّة في شرقي آسيا بصفة عامة. وعلى غرار فناني العصور الوسطى المسيحيين، اهتم الفنانون الهنود بصفة خاصة، بتمثيل عالم الآلهة الغيبي، وقوى الطبيعة الخارجيّة، فلم يبالوا كثيراً بالتمثيل الواقعي للأجساد أو النسب بقدر ما عنوا بتمثيل مشاعر الرهبة والرعب والتبجيل. ويزخر الفن الهندي بالعديد من القصص المعبّرة عن عقيدته الدينيّة: الهندوكيّة والبوذيّة، وكان الفكر البوذي قد غزا القلوب، فانتشرت فنونه من عمارة ونحت وتصوير في أنحاء الهند، ثم انتقل شرقاً عبر طرق القوافل المارة بصحراء جوبي نحو الصين ومنها إلى اليابان.
ويؤكد الدكتور عكاشة وجود أوجه للتشابه والاختلاف بين الفن الهندي والفن الأوربي. فقد كان الفن الهندي فناً دينياً تقليدياً على غرار الفن المسيحي في العصور الوسطى الأوروبيّة الذي كان مكرساً للتعبير عن الطبيعة القدسيّة للآلهة، وتعزيز مكانة الكنيسة، والكشف عن أسس العقيدة.
بين الفن الهندي والفن اليوناني
من جانب آخر، درج القوم على تلقين الفنان الهندي قواعد النسب والتناغم التي تؤهله لإبداع صور تجريديّة مثاليّة قادرة على الإيحاء بالطبيعة القدسيّة للأرباب، والصور الهنديّة في واقع الأمر، تجريد للشكل الآدمي. فبينما اتجه الفنان اليوناني إلى الإيحاء بالألوهيّة من خلال إضفاء الكمال والمثاليّة على الجسد البشري، اتجه الفنان الهندي نحو خلق شخصيات مثاليّة خارقة للعادة، ومخالفة للنسب المتعارف عليها، متبعاً قواعد ونسباً مقصوداً بها تجاوز الجمال الإنساني، فلا يُستخدم الجسد العاري في الفن الهندي لمجرد التعبير عن العري كما هو الحال في الفن الأوروبي، بل للإيحاء بحسيّة أرواح الإخصاب، أو بقدرة الراهب الجيني على التحكم الذهني في إرادته. والفن الهندي بصفة عامة، لا يكشف عن معرفة عميقة بتشريح الجسد الإنساني بقدر ما يكشف عن دراية واسعة بحياة الإنسان ومشاعره، وبلغة الإيماءات المعبّرة، المقننة في مبحث (ناتيه شاستره) الذي يُعزى إلى الحكيم الهندي الأسطوري (بهاراته). فعلى امتداد كافة العصور والمراحل التي مر بها الفن الهندي، كان النحات أو المصوّر الهندي يستهدف التعبير عن دفء الجسد البشري المترهل، وسريان أنفاس الحياة المنعشة بإضفاء التجريد على المستويات الناشزة التي تتشكل منها صور وتماثيل الرهبان الجينيين ذوات الشبه السطحي بتماثيل أبولو والكوروس الإغريقيّة المبكرة من حيث التجريد المضفى على الشكل التشريحي للإنسان، لكن بينما كان هذا التجريد الشائع في النحت الهندي مقصوداً بوصفه رمزاً للروح، وتعبيراً عن الانسحاب التام من الوجود المادي، كان التجريد في التماثيل اليونانيّة تعبيراً عن روعة جمال الشباب المترع بالحيويّة.
العمارة والنحت
يرى الدكتور عكاشة أن العمارة الهنديّة (كما النحت) نبعت من صميم المعتقدات الدينيّة الهنديّة، وقد وفدت إليها تأثيرات أجنبيّة على مر التاريخ. بدأ تشييد العمارة الهنديّة المبكرة بالخشب، ثم بالطوب والحجر، وبعضها كان يُحفر بالصخر على هيئة صومعة، ولاحقاً على هيئة معابد كاملة دُعيت (المعابد الكهفيّة) حيث تبارى البوذيون والجيينيون والهنديكيون في حفر المعابد الكبرى في جوف الجبال الصخريّة، ولعل أروع هذه المعابد هو المعبد الهندوكي في (كايلاشه). وهناك أنماط معماريّة خاصة استخدمتها العقيدتان البوذيّة والجيينية أشهرها (الستوية). كما ابتكر المعماريون البوذيون في الهند معبد الشجرة المقدس (كايتيه) غير المسقوف. وهناك أيضاً القصور الفارهة، والأبنية المتعددة الوظائف، وقد وصلت العمارة الهنديّة في بعض العصور إلى قمة الابتكار والدقة والكمال، زينتها التماثيل المجسمة والنافرة، ولوحات النقوش المختلفة العناصر والأشكال.
من جانب آخر، يرى الدكتور عكاشة أن الفن البوذي اليوناني الروماني وجهين لعملة واحدة، وهذا ما يمكن الاهتداء إليه في فن قندهار. والحقيقة أنه لا يمكن الحكم على الفن الهندي إلا مرتبطاً بالسمات الجوهريّة لشعوب الهند، فمرد التطور البطيء الذي وسم فنون الهند هو شغف شعبها بجمع القواعد والنظم وتصنيفها، وتقديسه للأعراف والتقاليد، فلا تتغير (الأشكال) فجأةً بل تدريجياً. وكان على الفنان ـ بصفة خاصة ـ اتباع الأيقونوغرافيّة الهنديّة الصارمة التي لا تهدف إلى مجرد تقديم إنجاز فني مناسب فحسب، بل إلى تقديم إنجاز فني ديني لا تقوم له قائمة إلا إذا ساير القواعد الجماليّة الملزمة، فلم يغب عن الفنان الهندي قط أن القصد من نحت التماثيل هو أن يكون في خدمة شعيرة التأمل والاستبصار من حيث وضعيته وتعبيراته وإيحاءاته وإشاراته، بل وما يكسوه من أردية لكل منها مدلوله الخاص. وبرغم ما قد تتصف به بعض المنحوتات الهنديّة المستقلة والقائمة بذاتها والمنفذة من الحجر، من اكتظاظ مفرط، ومظهر خشن، إلا أنها في الوقت نفسه، تعكس الذوق الهندي. وإلى جانب المنجزات الفنيّة الهنديّة الدينيّة (سواء البوذيّة أو البراهمانيّة أو الجيينيّة) كان ثمة فن دنيوي مثل اللوحات العاجيّة المحفورة التي تستخدم لتزيين مقاعد وأسرة السيدات في أجنحة الحريم، على أنه من الصعوبة بمكان التمييز بين الفن الدنيوي والفن الديني في المنجزات الهنديّة.
كهوف أجانته
يرى الدكتور عكاشة أن روعة اللوحات المصورة فوق جدران أجانته تكاد تحجب جمال المنحوتات التي لم تظفر بعناية الباحثين مثلما اعتنوا بالتصاوير الجداريّة الآسرة، مثل (جانجه) ربة النهر، واللافت في هذه اللوحات استجابة الفنانين التامة لمبادئ التصوير الهندي التقليديّة المعروفة باسم (سادنجة) التي تنبني على تنوع الأشكال ومراعاة النسبة والتناسب بين مختلف الشخوص والأشكال، وتضمين اللوحات المصوّرة بالمشاعر والأحاسيس، مع إعمال عناصر التعبير عن الجمال في تشكيل التكوينات الفنيّة، واستخدام ألوان الطيف كافة باعتبارها عنصراً جوهرياً في التعبير عن الجمال الأنثوي.
معابد خاجوراو
تمثل سلسلة معابد خاجوراو الفن المعماري والنحتي في شمال إقليم الوسط في الهند، فجميعها معابد شاهقة متضامة دون أسوار تطوّقها، شيّدت من الحجر الرملي المقتطع من محاجر جبل (بانه) المجاورة، فوق هضبة مرتفعة مسطحة تتسع لها وتوفر المماشي التي تستخدم للطواف في أنحاء المعبد، وتشتمل هذه المعابد على وحدات معماريّة أساسيّة متصل بعضها ببعض بحيث تبدو عناصرها من الخارج وكأنها كتلة من الحجر تعج بالحركة من خلال قوالب المستنسخات الزخرفيّة والأطواق والعقود التي تأخذ هيئات شبابيك وشرفات.
من أهم الأسباب التي اكتسبت معها معابد خاجوراو شهرتها العالميّة هو احتشادها بالتماثيل ولوحات النقش البارز المعبرة عن الجانب الدنيوي الحسي من عقيدة بهاكتي والتي تبرّئ اللقاء الجنسي من الخطيئة، وتضفي عليه الشرعيّة.
تضم معابد خاجوراو عدداً هائلاً من المنحوتات التي تمثل حسناوات، وثنائيات عشق. والحقيقة كان تراث الشعب الهندي متحرراً في تصوير مفاتن الأنوثة دون محاذير تحرّم تصوير العري أو نحته، لا سيّما ربات العصور المبكرة: كالياكشي، والأم الإلهة، وحوريات السورا، وغيرهن من ربات الخصوبة والوفرة، حيث جسّدهن الفنان الهندي وهن في ريعان الصبّا.
التصوير في الهند
كان التصوير الهندي في غالبه جدارياً، عكس بجلاء حياة الشعب الهندي الدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وبالرغم من أنه لم يعرف البعد الثالث، استطاع الفنانون الهنود بالاستخدام الحاذق للألوان الفاتحة في مقدمة اللوحة، والألوان القاتمة في خلفيتها، خلق نوع من التجسيم لشخوصهم، بعد أن درسوا بعناية شديدة كل وضعية من الوضعيات فبدت الشخوص رفّافة نابضة بالحيويّة.
بدأ الفنانون الهنود رسم منمنماتهم غلى صفحات من سعفات النخيل، ولكن ما لبث الورق أن وفد من الصين وفارس ليحل محلها في إعداد المخطوطات. ويختلف التصوير الهندي عن التصوير الأوروبي الذي يعتمد على الكتل والنسب السوية والخطوط الانسيابيّة الرشيقة. وإذا كان التصوير الهندي ينقصه الاستيعاب السليم لبنية الإنسان التشريحيّة، ولقواعد المنظور، وإدراك جوهر المناظر الطبيعيّة، فقد عوّض هذا كله بخطوطه المعبّرة، وبتناغم ألوانه، وإضفاء العاطفة الحادة على مصوّراته. وإذا كان المصورون الأوروبيون يعنون بجمال جسم الإنسان، والصينيون بالطبيعة ومناظرها الساحرة، والفرس بالزخرفة وتعظيم ملوكهم وأبطالهم، فقد عني الفنانون الهنود بتصوير كل ما يتصل بموضوع الحب الحافز على تواصل الجنس البشري وتكاثره.
وقد أسهم المسلمون والمغول في التصوير الهندي، حيث ظهرت مدرسة التصوير المغولي بعد أن أسس ظهير الدين محمد بابر إمبراطوريّة المغول الإسلاميّة بشمال الهند، ناقلاً بذلك حضارة الإسلام إلى الهند، إذ واكب اضمحلال البوذيّة فيها شيوع نهوض الإسلام، ما شجع المصورين على تزيين مخطوطات الكتب المقدسة بالتصاوير التي تناولت في عهد السلاطنة القصائد الرومانسيّة والتاريخيّة لأمير خسرو دهلوي وملحمة الشاهنامة للفردوسي، والحكايات الشعبيّة التي تمجد أبطال الإسلام، فضلاً عن أساليب طهي الطعام. وتكمن أهمية منمنمات هذا العهد فنياً في صدق أسلوبها عند تصوير ما يُروى ويُحس من مشاهد، وفي ثراء ألوانها، وفي لجوئها إلى الأساليب الفنيّة الأجنبيّة بعد تطويرها لتواكب التقاليد الهندية، وقد كان التصوير الهندي أيام النفوذ الإسلامي وقبل الغزو المغولي يقال له (تصوير السلاطنة).
الدراما والموسيقى والرقص والأدب
توقف كتاب (الفن الهندي) للدكتور ثروة عكاشة في بابه الرابع والأخير، عند فنون الدراما الهنديّة التي انبثقت من الطقوس والشعائر القديمة، وهي بشكل عام مبنية على توحد فنون الشعر والرقص والموسيقا، والهند هي المنبع الأصلي للمسرح الأسيوي الذي قام على أكتاف الدعاة من البوذيين الذين اضطروا إلى النزوح عن الهند. أما الموسيقى الهنديّة، فهي من الفنون العريقة ويرجع تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام، وهو فن غير منقطع لعرف ثقافي متوارث جيلاً بعد جيل. كذلك الأمر بالنسبة للرقص الهندي الذي ما أن نذكره تحضر إلى الذهن صورة راقصة منفردة ترتدي زيّاً زاهياً موشى بالحلي النفيسة والجواهر المبهرة، وهي تؤدي رقصة مدهشة. وهذه الراقصة، عادة ما تزدان بالقلائد والعقود والأقراط والأساور والخواتم والجمان والدرر والأطواق والأوشحة، بعد أن تعقص شعرها، أو تضفره، ولا تخرج إلى جمهورها إلا بعد أن تخضب يديها وقدميها بالحناء، وتتطيب بالعطر الفواح. والرقص عند الهنود نوع من القربان الذي يقدم إلى الآلهة. ويتألف في سماء فنون الأدب الهندي الكلاسيكي ثلاثة كواكب لامعة هم: (فالميكي) مؤلف ملحمة (الراماينه) و(فيدافياس) مؤلف ملحمة (المهابهارت) والشاعر العبقري (كاليداسه) الذي أبدع عدداً من الروائع الأدبيّة في فن المسرح وفي دواوين أشعاره على السواء. ومن النجوم الساطعة في سماء الأدب الهندي الشاعر والمؤلف والروائي والمسرحي والموسيقي والمصوّر والفيلسوف والمتصوف والتربوي والمصلح الاجتماعي والحائز على جائزة نوبل للآداب والفائز بأرفع وسام من ملك السويد، وبرتبة فارس من العرش البريطاني (رابندرانات طاغور).
التاريخ: الثلاثاء19-3-2019
رقم العدد : 16935