اعتَمروا الوطن كرامة، مرفوعة بالانتماءِ إلى كلِّ ما واجهوا من أجله، الظلمِ وظَلامه.. اعتمروهُ شرفاً هو نبضُ حياتهم، ويسري في مفرداتهم.. اعتمروه ضياءً، فتسربلوا به شموخاً وكبرياءً.. ساروا على بركة هواه، فما ضلُّوا لأنهم تماهوا في أناه.
إنهم المسكونون بعشقهم لسوريَّتهم.. ما أكثرهم وما أورع ما قرأناه فيهم ولديهم عن صدقِ وعفوية وجمال هذا العشق الذي مهروه بكلماتهم:
دماؤكم سيرةَ حبٍّ.. تجوبُ مع الغيمِ
• هيام علي سليمان – كاتبة وشاعرة:
«الوطنُ هو جدارُ الزمن الذي كنّا نخربشُ عليه بعباراتٍ بريئةٍ لمن نحبُّ ونعشق.. الوطنُ هو الحليب الخارجُ من ثدي الأرض، وقد ارتشفناهُ عشقاً.. الوطن هو الحبُّ الوحيد الخالي من الشوائب.. حبٌّ مزروعٌ في العيون..».
تكفي هذه المقدمة، لتبيان مقدار العشقِ الذي تحمله هذه الشاعرة لسوريتها.. الوطن الذي ترى بأنه المعشوق العظيم، وبأن دمشق هي نبضُ العشق الذي يسري فيه عبرَ كلماتها: «دمشق في حضرة البارود والرصاص وصهيل مسافات الحروب.. أحدِّق في اتِّقاد عينيكِ، ألملمُ فضَّتها وأنثرها باقات ضوء على اشتعالاتي المتعبة، وأستدين من بعضِ شغبك وصخبك، وبعض ياسمينك، لأرتقي من عمري وأفتح مساربَ دفءٍ أغلق بها قيظ أيامي.. دمشق.. أيتها الغافية على محطات ولادة الأمم..».
نعم دمشق.. المدينة التي عانقتها في حضرة النور والنار.. النور الذي سطع من جباهِ أبطالها، والنار التي أحرقوا بها كلّ حاقد وخائن وغدَّار.. حماةُ سوريَّتها، ممن قدَّستهم بصلاتها: «جيشٌ/ تأتي كلّ طيور العشقِ إليه/ تشربُ من وضوءِ يديه/ يحملُ تاريخهُ المشتاق/ على شاطئِ الحربِ رغبة بالانعتاق/ يصمتُ في حضرةِ الأبد/ فيستنشقُ كلّ أريج الزهر/ وينطقُ بالجَلَدْ/.
هكذا رتَّلت «سليمان» صلاتها تقدَّس رجال سوريَّتها، وعلى مدار تضحياتهم، وكلَّما سطعت الحياة من قلبها ومفردات آياتها: «نارٌ أنتم يسعى الكونُ لإنضاجها ملحمةَ عبادة على قمَّة حواسِ اللهب.. تُبدعون المقاومة في أرضٍ تنتظرُ المحاريث المتعطِّشة.
تنحني لكم لغاتُ الأساطير، وتعزفكم الأبجدية حين تنطقها الشِّفاه في تمامِ الألوهةِ حباً أبدياً.. أنتم نون ميمِ الحبِّ، سين كافُه، والألفُ المبجَّلُ في السلام..».
كلُّ هذا والشهداء لديها أنبلْ وأعظم، حتى وهي تلقي القصيدة أو تكتب أو تتكلَّم.. أنبل وأعظم، لأنهم أبوا إلا أن يكون الشرف عطرهم، ولأن الضوء يسطعُ مع يقظةِ كلِّ فجرٍ مبسملاً بدمائهم: «عطركم يشهقُ بصوتِ الذاكرة، ويبوح بمكنوناتِ الروح في لحظاتها الأشدُّ حرجاً.. لحظة الحبِّ ولحظة الحرب.. حربٌ على الحياة، وحربٌ على الغُزاة..
دماؤكم سيرةَ حبٍّ تجوبُ مع الغيمِ، ولها أنين الأرض وشغف الوطن والتاريخ والعقيدة والأحلام وتعانق الإنسانية وتوالي الزمان..».
تدقُّ ساعة الوطنِ.. على توقيتِ عطرِ أول رصاصة
• محمد منير الزعبي – كاتب ومُدرّس:
«أحاول ألا أكتب عنها، فكلَّما جرَّبتُ أن أخط َّ حرفاً نزفَ الياسمين ولكن، حين تبدأ مقطوعة الحبِّ تعزف، سوف يكون لها من ياسمينها بساطاً في دربِ كل من يخطو باتجاه قلبها.
حين تبتسم، تمتلئ السماء بالياسمين، وحين تعزف الروح لحنها على وترِ الدفاع عنها، تدقُّ ساعة الوطنِ على توقيتِ عطرِ أول رصاصة..
هي دمشق.. عاصمة التاريخ، وحاضنة الحضارات، وأمّ البلدان.. فيها أكبادٌ تخفق، وأوراقٌ تصفق، ونهرٌ يتدفق، ودمعٌ يترقرق، وزهرٌ يتشقَّق.. فيها، كُتبَ تاريخُ الرجال وسُطِّر تهذيبُ الكمال..».
أيضاً، تكفي هذه المقدمة لتبيان مقدار عشق هذا الكاتب لدمشقه.. هذا الباحث في عمقِ سوريته وثقافتها التي تعلّم من أبجديتها، بأن علينا: «علينا أن نتقاسم الخبز الكوني من تحت لحاءِ الأخوَّة، وأن نهيئ الحبَّ للعابرين سقف العيش المشترك، وأن نلغي حرف العطف بين «اﻷنا» و «اﻷنت» لنكون الـ «النحن» واحداً في كلِّ أمرٍ..»..
تعلّم منها ذلك، و تعلّم أيضاً أن يواجه بكلماته كلّ أعدائها، ممن يسعون للنيلِ من أرضها أو بحرها أو جوِّها.. يواجههم ويحذرهم: «عاريةٌ سماؤنا إلا من وشاحِ سوريَّة».
جباهٌ بلونِ بلادي.. يشرقُ منها النهار
• عفاف الخليل – كاتبة وشاعرة:
/لا تبكي أمِّي قومي انهضي/ كلُّ الرمادِ الى زوال/ قومي اصرعي غربانَ حربٍ/ تلملمُ خارطةَ النضال/ قومي ازرعي حلم الرجوعِ/ مخبَّأ بين المرايا والضلوع/ لن نلعن الظلماء لكن/ سنشعلُ بالحبِّ هاتيكَ الشموع/..
إنه مادعت إليه الشاعرة «عفاف الخليل» الأمومة السورية، ومن أجلِ أن تنفض غبار الحرب عن قلبها.. وطنها الذي قرَّرت الرحيل منه إليه، فلوّحت وداعاً يحاكيه: «إليكَ أشيلُ ارتحالي».. أيا وطني الغالي.
هذا مادعتْ إليه، بعد أن رأت «وطن بحجم الحزن، وبحجم الفرح» هو «وطن بياسمينٍ مهشَّم» وبوجهٍ كلّ ما فيه يتألم فيتكلّم: «مضرَّجٌ وجهكَ بالصخب/ على مرمى شموخك/ يرقدُ النخيل ويصلّي واقفاً كي تنجو/ ياسمينكَ يحفظُ صرير الزمهرير/عن ظهرِ قلب/ وتلمُّ الأمهات جراحها/ على حافةِ جرحك/..
كل هذه الجراح، جعلتها تستدعي حماة وطنها وقلبه.. رجال الجيش العربي السوري الذين خاطبتهم بأعلى صوتها، يقينة أنهم حرّاس الليل وفجره:
«من سيحرسُ ضفائر الصبايا/ وتميمة أمّي التي خبَّأتها بين الضلوع/ من سيعمِّر هذا التراب/ بالقمحِ والغار ونبض الشموع!/ من سيسحبُ ليل الحروب/ ويرسمُ فينا ذاك السطوع/ من سيعمِّرُ نهر الغناء/ يرتِّلُ جرح السلام/ غير رجالٍ تحدُّوا المخاوف/ سواد الليالي وصارا صموداً جبالَ انتصار/ جباهٌ بلونِ بلادي يشرقُ منها النهار/..
هكذا خاطبت حماة سوريتها, أولئك الذين لم تكن تملك لدى استشهاد من كانت قد صافحتهُ منهم إلا إطلاق صرختها: /تصافحنا/ قرأتُ في عينيك وطناً يستغيث/ والآن أراكَ تصافحُ الوطن/ تاركاً سلامكَ على أصابعي يستغيث/.
هفاف ميهوب
التاريخ: الأربعاء 27-3-2019
رقم العدد : 16941