الملحق الثقافي..جميل عاطف علي:
في أرضٍ واسعة بعيدة نبتتْ تلك الجوريّة، ملأتِ الدنيا جمالاً وأعطت للحياة لوناً.. إلا أن القدر جعلها تعيش مع مجموعة نباتاتٍ لا تشبهها أبداً. هذه النباتات شقّتِ الأرض مؤخراً، و الأشواك الواخزة سمتها المميزة، عندما رأت جمال الجوريّة بدأتِ الغيرة، وبدأت المحاولات للنيل منها.
الجورية كانت وحيدةً بينهم، وكان مفروضٌ عليها أن تتعايش مع هذا الجو الذي لا يناسبها، وإلا سيكون مصيرها الموت لا محالة.
بدأت تنمو شيئاً فشيئاً، وحاولت كثيراً التقرّب منهم إلا أنها تعرّضت مراراً لنخزاتٍ من جاراتها اللواتي حاولْن بشتى الوسائل تضييق الخناق عليها كي تموت. لا يُردْن غريبةً بينهنّ. عانت كثيراً تلك الوردة الجورية إلى أن كبرت أشواكها وتفتّحت أول زهرة عليها.
رائحتها العطرة أزكمت أنوف الشوكيات، ولونها المميز جعلهنّ ينفجرْن غيرةً وحسداً منها أكثر، وهي طيبةٌ، لا تكنّ أية عداوة تجاه أحد.
مرّ رجلٌ في إحدى الأيام عبر هذه الأرض، سمع صراخهنّ فأسرع نحوهنّ. عندما وصل إليهنّ صرخ هو أيضاً: ما بكِنّ أيتها الشوكيات؟ لم تتفوّهن بهذه الألفاظ النابية، لم تعتدين على جوريّة؟ وأنتِ أيتها الجوريّة كيف تستطيعين العيش هنا بين هذه الشوكيات؟
ردّتْ الشوكيات: نكرهها ولا نريدها بيننا.
حزنتِ الجورية وطأطأت رأسها فهي تحبهنّ بالرغم من كل شيء، فهذا موطنها وهنّ أخواتها.
قالت الجورية للرجل: أنا أول من نبت في هذه الأرض، وهنّ يُسئْن لي دائماً، رغم أني لم أقابلهنّ بالسوء أبداً.
طلبتِ الجورية من الرجل أن يقتلعها ويخلّصها من هذه الحياة البائسة.
هز الرجل برأسه للأعلى وقال:
لن أقتلعكِ يا جورية.. ستبقين مُعزّزةً مُكرّمةً هنا. وسآتي كل يومين لسقايتكِ.. كوني مطمئنّة. وأنتنّ أيتها الشوكيات سأعاقبكنّ عقاباً شديداً إن آذيتنّ أختكم الجورية.
خافتِ الشوكياتُ من تهديد الرجل، وبدأت تتحسّن المعاملة مع الجورية رويداً رويداً. ولكن ليس حباً بها وإنما خوفاً على حياتهنّ. كان الرجل يلاحظ أن الجورية تحبّ الشوكيات حباً كبيراً صادقاً في الوقت الذي يتّضح فيه أن الشوكيات يتّبعن النفاق في علاقتهنّ مع الجورية.
كان الرجلُ يأتي كل يومين كما وعد مع جرّةٍ فخارية مليئة بالماء ويسقي الجورية، إلى أن حصل أمرٌ غير متوقع. الرجل لم يأتِ منذ أسبوعٍ إلى هناك. كان هذا الأمر مُحزناً بالنسبة للجورية فقد ذبلتْ أوراقُها وانهارتْ قواها ولم تعد تستطيع تحمّل العطش. تأوّهتْ كثيراً واستنجدتْ بأخواتها الشوكيات إلا أنهنّ ضحكْن بل قهقهْن ساخراتٍ منها.
الآن لا أحدٌ يقف معكِ. ذاك الرجل منذ زمنٍ لم يأتِ، و يبدو أنه تخلّى عنكِ. حان لكِ أن تموتي. لا نريدكِ، وكل ما مضى من أيامٍ سابقة عبارة عن تمثيل. أتصدّقين أن شوكةً أحبّت جورية يوماً؟ هذا لن يحدث أبداً.
الشوكيات كُنّ في حالةٍ جيدة. وفي ليلٍ دامس بدأن بهجومٍ قوي بأشواكهنّ الحادة على براعم وأوراقِ وأزهار الوردة الجورية. والجورية تصرخ وتقول: توقّفْن، أرجوكنّ أخواتي. ولكن دون جدوى، لا شفقة ولا رحمة.
انتصرتِ الشوكيات في هذه المعركة على الوردة الجورية، التي استلقت على الأرض بحالةٍ يُرثى لها.
الرجل أجبره أمرٌ طارئ على السفر بعيداً فأخوهُ في المدينة كان مريضاً وما إن استقرّ وضعهُ الصحي حتى عاد مسرعاً إلى المكان الذي تنبت فيه الجورية والشوكيات. كان قد شعر أن أمراً خطيراً قد حصل أثناء غيابه. توجّه فوراً في الصباح إلى المكان. ما إن رأتهُ الشوكيات حتى ارتعشت خوفاً فلم تكن تتوقّع عودته إلى هنا.
عندما شاهد آثار الجريمة التي اقترفتها الشوكيات عادت به الذاكرة إلى الوعد الذي نطق به. حمل فأسهُ وبدأ باقتلاع الشوكيات من جذورها واحدةً تلو الأخرى على وقع التأوّهات والترجيّات غير المُجدية. انحنى وقبّل جذور الوردة الجورية وهمس لها: الآن صارت الأرضُ كلها لكِ، و انتصر الخيرُ على الشر. ستعودين أجمل وأقوى مما سبق طالما ما زالت جذوركِ متمسّكةً بالتراب.
سقاها، وبعد فترةٍ عادت لتنمو من جديد بأوراقٍ خضراء أكثر وساقٍ أكثر صلابة، وأزهارٍ كبيرة ملوّنة تنشرُ عبيرها الفواح في أرجاء المكان.
عاشت جوريّة. وإن أبدلنا الجيم سيناً نكونُ قد سطّرنا قصّة وطن.
التاريخ: الثلاثاء9-4-2019
رقم العدد : 16952