الثورة – تحقيق ثناء عليان:
في زمنٍ يزدادُ فيه الخراب الروحي وتتصارع فيه الأيدولوجيات، يظلُّ سؤال المثقَّف سؤالاً مفتوحاً على الاحتمال، مربكاً في دلالته، متشظياً في واقعه، عن أسباب عزوف الكثير من المثقفين عن ارتياد المراكز الثقافية لدرجة أنها أصبحت شبه خاوية..!
فقدان النقاء الأخلاقي
الشاعرة والروائية أحلام غانم في حديثها لصحيفة الثورة، ترى أنه من أسباب هذا العزوف ما يتعلق بالمثقف نفسه، ومنها ما يتعلق بالواقع الذي يعيشه، وعدم الثقة في جدوى العمل الثقافي، والخوف من فقدان النقاء الأخلاقي، والشعور بأنه مهمش وغير مسموع، وأن جهوده لا تجد التقدير اللازم، مما يدفعه إلى الانسحاب والتقاعس عن المشاركة أو الحضور والتخوف من الصراعات والمواجهات التي قد تنجم عن تبنيه لمواقف معينة، خاصة إذا كانت هذه المواقف تتعارض مع مصالح قوى نافذة لا تتقبل الآخر، ولا ترغب في وجود من ينتقدها أو يكشف أخطاءها.
وتطرح كاتبة “رتاج الشمس” أسئلة كثيرة منها، أين نحن من مسؤولية المثقف؟ وهل نملك من الشجاعة والحرية ما يكفي لنفرز المثقف الصادق من المزيف؟ برأيها ذاك هو التحدي الأكبر في عصرٍ تشابهت فيه الأصوات وغاب صوت الحرية وتعددت فيه الأقنعة في مواجهة ما يُعرف باسم “الإلحاد الثقافي”، خاصة في ظل التحديات المعاصرة وفراغ الإدارة الفكرية الحرة، صفوة القول تضيف كاتبة ديوان تيم البنفسج: الثقافة رسالة إنسانية صادقة ما لم يحملها القائم عليها، فإنه سينزلق في منزلق “المثقفين المغالطين”.
وتختم الشاعرة أحلام غانم مؤكدة أن المراكز الثقافية بحاجة قصوى إلى المدير المثقف القادر على النظر إلى المواضيع من وجهة نظر الآخر، أو وجهات نظر مختلفة بإعمال الفكر في اطلاعه الواسع، لأن الثقافة الحقيقية المتوازنة، لا تقبل المثقف المدعي وترفض انتماءه لها، لأنه يبحث عن منافعه الآنية أولاً وأخيراً.
جمهور الثقافة
الأديب مفيد عيسى أحمد يؤكد أن هناك عدة أسباب أدت للوصول إلى هذه الحالة، لكن، يضيف: علينا أولاً أن نذكر أنه لم يكن هناك جمهور ثقافي حقيقي إلا فيما ندر، فأغلب الحضور في النشاطات الثقافية سابقاً ولسنوات طويلة كانوا إما من دائرة القائم بالنشاط، معارف وأقارب وعدد خجول من المتهمين فعلاً.
ولفت كاتب رواية “الماء والدم” إلى أن هناك حضوراً له طابع آخر وهو جمهور التسلية، هذا الجمهور يكون حاضراً في أي نشاط، والدافع لحضوره ليس ثقافياً ولا بدافع الاهتمام بموضوع المحاضرة أو الأمسية، بل بدافع القيام بأي عمل لملء الفراغ وإيجاد من يمكن التواصل معهم، وهذه الفئة يمكن تصنيفها في إطار فئة جمهور أكبر، هو جمهور الاعتياد، من اعتادوا حضور النشاطات بغض النظر عن مضمونها ويمكن أن نضرب مثلاً لهذا الجمهور بجمهور النوادي والملتقيات الأدبية.
ويذكر كاتب “حارس الفلة البنفسجية”.. كان هناك استثناءات قليلة تحدث بسبب المحاضر حين يكون شخصية أدبية أو ثقافية على مستوى عالٍ، أو الموضوع المطروح، وهي قليلة جداً، ولم تعد موجودة مؤخراً، في الفترة الأخيرة صار الجمهور الثقافي وفق ما شاهدت بحضوري لبعض النشاطات لا يتعدى عدد أصابع اليدين، والحقيقي منه أصابع اليد، الواحدة، لأن بعض الحاضرين كان من الموظفين في المركز.
الثقافة صارت ترفاً
الأسباب برأي كاتب “البطل في وقفته الأخيرة” اقتصادية، فالكل مشغول بتأمين لقمة العيش والثقافة صارت ترفاً… لا بل طيشاً للأسف، إضافة إلى عوامل أخرى منها سوء اختيار موظفي المركز والقائمين على النشاط، فليس من المعقول أن يتم اختيار مدير مركز ثقافي تعيينه تمريض، ومن المعروف أن آلية اختيار مديري المراكز سابقاً لم تكن تقوم على ثقافة المرشح لهذا العمل ولا على كفاءته.
ويؤكد الأديب مفيد عيسى في ختام حديثه، أن هناك مديري مراكز يمكن اعتبارهم جهلة ثقافياً ومعرفياً بكل ما تعنيه الكلمة، مشيراً إلى عامل آخر مهم وهو سوء اختيار توقيت النشاط، وهذا ما لمسته بنفسي من خلال مشاركتي بنشاط في مركز بانياس، وكان التوقيت يوم السبت، الحادية عشرة صباحاً.. والعامل الأهم هو حالة عدم الاستقرار التي نعيشها والتي نأمل أن تنتهي قريباً.
تحول في أنماط التلقي الثقافي
بدورها تؤكد الشاعرة سميا صالح أن هناك تحوّلاً عالمياً في أنماط التلقي الثقافي، إذ باتت المنصات الرقمية ومواقع التواصل هي المصدر الأوسع انتشاراً للمعرفة والترفيه معاً، والشباب على وجه الخصوص يجدون في الإنترنت محتوى أسرع وأكثر تنوعاً من البرامج التقليدية في المراكز الثقافية، التي ما زالت تعمل وفق نمط كلاسيكي مكرر “محاضرات مطولة، أمسيات تقليدية، عروض محدودة”، دون محاولة ملامسة اهتمامات الجيل الجديد.
وتوافق الشاعرة صالح الأديب مفيد عيسى من أن غياب التنوع في البرامج وضعف التفاعل بين المثقف والجمهور، جعل الأنشطة تبدو نخبوية أو جامدة، كما أن الأزمة الاقتصادية في سوريا أثّرت على أولويات الناس، فالاهتمام بالثقافة تراجع لمصلحة تأمين أساسيات المعيشة، التنقل وصعوبة المواصلات وغلاء المعيشة كلها تقلل من الحافز لزيارة مكان ثقافي خصوصاً إذا كان الطرح لا يستحق العناء بنظر الحضور خاصة حين يغلب عليها الطابع البروتوكولي أو الرسمي ما يجعل الجمهور يرى فيها واجهة شكلية أكثر من كونها فضاء حيوياً للتفكير والإبداع.
الحروب والأزمات
الجمهور- حسب الشاعرة صالح- أصبح يتساءل: ما القيمة المضافة من حضور ندوة أو أمسية إذا كان النقاش محدوداً أو مغلقاً؟ إضافة إلى أن الحروب والأزمات الطويلة تضعف الميل إلى الانخراط في أنشطة ثقافية ذات طابع احتفالي أو فكري عميق المزاج العام، مشبع بالقلق ما ينعكس على الإقبال على الفضاءات العامة ومنها المراكز الثقافية. من كل ما سبق تختم صالح القول: نستخلص أن العزوف عن ارتياد المراكز الثقافية في سوريا ليس سببه مزاج الناس فقط ولا هزالة الطرح وحدها، بل هو نتاج تفاعل معقد بين تحولات الذائقة الثقافية، وضعف تجديد المؤسسات، والظروف الاقتصادية- الاجتماعية، وانكماش الثقة بالجدوى.