رحلة الحوم رحلة الألم

 

لم تكن الشمس قد ارتفعت فوق الجبال الشرقية بعد، كأنما هي تتجول على مهل بين تلّ سيانو وبساتين الليمون لترتفع بعد ذلك عالياً.
كانت طيور الحوم مبكرة في سفرها من الجنوب إلى الشمال، شعرت بغصة حزن وأنا أنظر إلى هذه الطيور المهاجرة بين الجنوب والشمال ربيعاً وبين الشمال والجنوب شتاء، فهي على غرار (رحلة الصيف والشتاء) خيِّل لي أننا نشبه هذه الطيور حين نهاجر بين الحياة والموت.. أو حين نهاجر إلى بلدان ليست بلادنا وليس لنا فيها أحبة ولا خلان.
طيور الحوم تسافر جماعات وها هي تقف وسط السماء وتراقب المدى العالي منتظرة عشيرتها صنعوا حروفاً في السماء وأطلقوا أصوات الوداع.. لا بد أنهم تكلموا بلغتهم.. نادوا بعضهم.. اجتمع الشمل.. وانطلقت الرحلة.. رحلة الصيف باتجاه البحر الأسود.
…………………………
ارتفعت قبيلة الطيور إلى الأعالي.. صارت عبارة عن كرات صغيرة بيضاء وسوداء.. وصار الصوت القريب بعيداً، خافتاً إلى أن تلاشى فتحولت الكرات إلى نقط سوداء باهتة ترش السماء البعيدة بوبر الألوان الغريبة.. يبدو أن كل كائن حي على هذه الأرض يحتاج إلى قبيلته، إلى عشيرته لتسنده وخاصة في بلداننا.. لهذا تخطط الأسرة لأن يكون لها قبيلة من الأولاد وخاصة الذكور ليكونوا محاربين عنها في ساحات الوغى التي لا يحكمها قانون ولا معيار سوى قانون الغاب.. القوي يأكل الضعيف.. والفقير يصمت جور الغني وهكذا تدور الأيام، بينما نجد أن الناس في المجتمعات الغربية التي لا تؤمن بالعشيرة، تعتمد على الدولة في حمايتها.. فالفرد محمي بالقانون.. والأسرة مصانة بالقانون.. وهذا القانون هو قبيلة الفرد.
(فكيف تعيش أنت في الغربة.. دون قانون ودون قبيلة؟)
………………………….
تلاشت طيور الحوم من السماء.. وارتفعت طائرة حربية تحلق بصوتها الوعر.. لم أسمع هديل الحوم الذي يشبه (صوت صيصان صغيرة تلتف على أمها)
ابتعدت الطائرة.. تركت وراءها دخاناً أسود.. شعرت بالاختناق والانزعاج.. خرجت إلى الحديقة التي لا تزال حائرة بين الربيع والشتاء.. فهي لم تخضرّ كلياً. لا تزال تخبئ ثوب الشتاء في عبّها إذ لم تعد تثق بوعود الربيع ولا بوعيد الشتاء لذلك نراها متأهبة حائرة مثل المواطن السوري الذي لا يعرف أين (تشلحه الأقدار.. ومتى ترأف به الأيام)
حين ابتعدت الطائرة جاءني صوت الحوم من جديد.. يبدو أنه قطيع آخر.. قبيلة أخرى.. كانت بطيئة.. وكان وراء القطيع عدة طيور تطير منخفضة. التفت عشرات طيور الحوم حول بعضهن ورجعن إلى الوراء.. تباطأ القوم.. وتأخرت الرحلة.. ظهرت الطيور كبيرة.. واضحة بألوانها وأجنحتها الكبيرة. شعرت أن طائر الحوم يستطيع أن يحمل طفلاً ويطير به إلى عالم بعيد ولغة بعيدة.. كان أطفال الجيران يراقبون معي عشيرة الحوم التي بدت قريبة منا. أناشيدها الجميلة التي نكاد أن نفهمها.. لا بد أنها تحث على السير السريع.. وتشد من أزر الحومات المتعبات.. غير أن جزءاً من القطيع وقف عالياً يموج مع الغيم.. والجزء الآخر تهادى وأبطأ منتظراً الباقي من الحوم وكأنهم يتقيدون بأوامر صارمة بأن يظلوا مع بعضهن متجمعات متكاتفات حتى لا يخترقهن العدو.. ولكن أحد الطيور تراخى أكثر واقترب من رؤوس الأشجار.. فما كان إلا أن سمعت طلقات نارية سريعة تتوجه إلى الطائر المتعب.. في البداية لم يصب. تأملت خيراً عندما ارتفع قليلاً وأحاطت به المجموعة.. رجوت الشاب ألا يطلق النار ثانية.. لكنه (ومن مفهوم الحرية الشخصية.. والسيادة السلوكية) رفض تلبية رجائي وأطلق النار على الطيور المقصرة فأصاب هذه المرة إحداها ليهبط كما مظلة طيار أصيب في الحرب.. تهادى الطير مضرجاً بدمه.. زقزق وناح.. وارتفع صوت (طيور الحوم) مندداً بالجريمة.. لكن هي القوة.. تفرض شروطها وقوانينها.. استسلم طائر الحوم وركن إلى جذع الشجرة متمرغاً بالعشب، بينما حامت الطيور مودعة كأنها أدركت المصاب الجلل.. التفت على بعضها وأطلقت صيحة مدوية وارتفعت من جديد وهي تزقزق بحزن وتحوم باتجاه الطائر الجريح إلى أن فقدت الأمل. كانت تبتعد وتتلاشى وكان الطائر الجريح يئن بينما الصياد الماهر يحضر لوليمة على جراح طائر الحوم الذي لم يكمل رحلة الشتاء والصيف. طفرت دمعتي.. لكني أخفيتها حتى لا يقال (تبكي على طير)
همست (نحن السوريون نتقن الحزن فقط)
أنيسة عبود

 

التاريخ: الأربعاء 10-4-2019
رقم العدد : 16953

آخر الأخبار
باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب دوبلانتيس يُحطّم رقمه القياس رعاية طبية وعمليات جراحية مجاناً.. "الصحة" تطلق حملة "أم الشهيد" ليست للفقراء فقط.. "البالة" أسعار تناسب الجميع وبسطاتها تفترش أرصفة طرطوس ماوراء خفايا الأرقام والفساد في اقتصاد الأسد المخلوع؟ بعد ترميمه.. إعادة افتتاح الجامع الكبير في اعزاز بريف حلب الشمالي من شجرة الرمان كانت البداية.. ريم درويش استثمرت أوقات فراغها بمشروع مثمر حالة ضعيفة من عدم الاستقرار الجوي مع ارتفاع في درجات الحرارة غداً إدارة إلكترونية وربط مباشر بالمصارف.. ما سر "الحكومة الرقمية المصغرة"؟ برامج عمل مشتركة مع "أكساد" لتطوير وتنمية الثروة الحيواني