.. وأول الحكايا عن رجال من بلدي لكاتب.. «معتاد على رؤية الدم»

«كانت شمسُ حزيران تضحكُ في الفضاءِ، وهي تنحدرُ إلى البحرِ منزلقة على طرفِ القبَّة الزرقاء الصافية كزجاجٍ شفاف، والمدينة تتنفّس المساءَ بعمقٍ وبطءٍ، والناس قد جلسوا أمام حوانيتهم أو في أبوابها، يتحدَّثون أو يفكِّرون بشيءٍ ما..
كانوا ينتظرون حدثاً لايشكِّون بأنه واقعٌ اليوم أو غداً أو بعد غدٍ، ورغم أنه لم يكن ثمّة موعدٍ مضروب بينهم، إلا أنهم كانوا جميعاً يشعرون، بأن حدثاً مهماً سيحدثُ اليوم فجأة.
ينطفئُ الصمت، ويشتعلُ الهدير، وتنفجر المعركة التي كانوا يعرفون بأنها قادمة.. عليهم أن يضربوا بعنفٍ من كلِّ قلوبهم، وبأيِّ شيءٍ تطاله أيديهم.. بندقية، سيف، عصا، خنجر، فأس، رفش. أيّ شيءٍ يقتل العدو أو يعطِّله أو يفجِّره في ثكناته التي تحصَّن فيها رافضاً الجلاء»..
هي كلماتُ أديب، لم يكن يتوقع بأن ما وصفهُ في هذا اليوم سيجعل منه كاتباً، مثلما صارعَ البحرَ فغلبهُ حتى في أعماله، صارع الحياة دفاعاً عمّن حملوهُ مسؤوليةَ النطقِ بما يعانونهُ من فقرٍ وبؤسٍ وظلمٍ واعتداءٍ، وسوى ذلك مما جعلَه إنساناً شجاعاً حتى في واقعه..
إنه «حنا مينه» الأديب الذي أعلنَ ومّذ حُمِّلَ هذه المسؤولية، بأنهُ «معتادٌ على رؤية الدم» القصة التي كتبها عن غير قصدٍ، وعندما كان حلاقاً وسياسياً في آنٍ.. حلاق على مقربةٍ من ثكنةٍ في دكانٍ قرب الجامع في حيِّ القلعة باللاذقية، وسياسياً منهمكاً في النضال لتحقيق هدفين، الجلاء والعدالة الاجتماعية..
نعم الجلاء… جلاء المستعمر الفرنسي الذي دفعته شروره وما تلمّسه من غضبِ الشعبِ منه ويقظته تحسباً لغدره.. أيضاً، تأهُّب هذا الشعب لمواجهته وطرده من أرضه.. قام، وفي عام «1946» بوصف تلك الأيام: «في مثل هذه الأيام، يهيمنُ على الحياة صمتٌ مخيف، الناس ذوو الشجاعة يعملون ولا يتكلَّمون، والعيون التي أشرق منها الإيمان بالنصر، تشعُّ نوراً يضيءُ المجهول من المستقبل، أما النفوس الظامئة إلى القتال، فإنها تتحرَّق شوقاً إلى الشهادة، والأرض منكمشة تنشقُّ عن أرواحٍ من نار، تملأ آفاق الفضاء بالدعوة إلى القتال، فتتمدَّد الأصداء وتدوِّي بصيحاتِ النفيرِ العام».
إنها قصّته الأولى..القصة التي كتبها في ذلك الدكان الصغير ذي الباب العتيق المهترئ، حيث كان يقرأ ويكتب العرائض والمكاتيب، ويناقش في القضايا الساخنة، ودون أن يخطر له أنه سيصبح كاتباً لطالما، اعتقد بأن كل ما يكتبهُ، كان مجرَّد وصفٍ للأوضاع التي كانت سائدة وقاسية آنذاك..
هكذا بدأ «مينه» الكتابة.. في دكان الحلاقة الذي لم يكن المكان الوحيد الذي جمعه برجالٍ اعتادوا وإياه على رؤية الدمِّ.. رجالٌ، رغم أنهم لم يرفعوا في يومٍ من الأيام كفاً على أحد، إلا أنهم رفعوا السلاح في وجه المستعمر، وقاتلوه ببسالةٍ تُروى عنها الحكايات، وتُخلّد بما فيها من تضحيات..
سمع الكثير عن تلك الحكايات، وكان شاهداً على مواقفٍ جسدت أروع البطولات.. كان ينظر في وجوهِ الرجال الأبطال ويتساءل: كيف يعيشون، وبماذا يفكرون، وكيف لا يخافون؟..
تساءل بذلك مراراً، وإلى أن أتى اليوم الذي شهدَ فيه ما كانَ رداً على سؤاله.. شهدَ، وعندما نظر فجأة إلى أقصى الشارع: «من أقصى الشارعِ هرعَ الناسُ وهم يحملون بنادقهم وفؤوسهم ورفوشهم وعصيِّهم، وانشقَّت الأرضُ المُنكمشة عن أرواحٍ من نار، وثارَ في كلِّ مكانٍ إعصارُ الشجاعة المجنون.. أُغلقت الحوانيتُ وبقي بعضها مفتوحاً، وقُطعت الطرقات وأقيمت المتاريس، وأرعدت المدافع وانهمرَ الرصاص، وفي وسطِ الشارع، دارت المعارك وسقطت جثثُ المحتلين شوهاءَ ممزقة الأوصال، واحمرَّ قرصُ الشمسِ وولى هارباً وراءَ الأفقِ البعيد..
قفز الرجالُ من وراء الجثث وهم يضربون ويضربون بقوة، بعنف، بإيمان في النصرِ الكبير.. عاد جيراني إلى حوانيتهم، وبعضهم لم يرجعوا، لكننا كنا نراهم في خيالِ الفرحة أحياء، أحبَّاء.. نذكرهم وقاماتهم تكبرُ وتكبر في فسحة رؤيانا، حتى تستحيل إلى قاماتِ عمالقةٍ من الإغريق».
انتهت المعركة.. عاد الرجال إلى منازلهم وعاد معهم، مقاتلٌ ظهرَ بعد غيابٍ طويل. كانت «ذقنه طويلة، وثيابه مغبّرة، وعيناه ملفوفة بضمادةٍ بيضاء، شأن العائد من المعركة».
دخل الدكان ليحلق ذقنه، وروى للذين كانوا يتجمعون فيها، كيف قام مع مقاتلين آخرين، بمنعِ الإمدادات عن المستعمر، ومنها تلك التي أُرسلت من حلب إلى اللاذقية، وكيف خاض وإياهم معركة ردُّوا فيها إحدى القوى الفرنسية التي كانت تتجه إلى جسر الشغور لنجدة الحامية هناك..
يصفُ «مينه» الذي كان مشغولاً بالحلاقة لزبونٍ آخر.. يصفُ، ملامحه وابتسامته الشجاعة وقوله: «لو رأيتم الأوغاد كيف كانوا يهربون، لقد اصطدناهم ودحرجنا عليهم الصخور فقطعنا الطريق.. قالها والتفتَ إلى الولد الذي كان يعمل في الدكان ويحلق له ذقنه: هيا يا بنيَّ.. حرِّك يديك.. تعلّم الحلاقة في ذقني ولا تخف.. أما قلتُ لك أني متعوِّد على رؤية الدمِّ».
هفاف ميهوب
التاريخ: الأربعاء 17-4-2019
رقم العدد : 16959

آخر الأخبار
المعتقل صفراوي عالج جراح رفاقه في سجن صيدنايا وأنقذ الكثيرين "حركة بلا بركة" تفقد واقع عمل مديريات "التجارة الداخلية" في اللاذقية خسارة ثالثة على التوالي لميلان تكثيف الرقابة التموينية بطرطوس.. ومعارض بأسعار مخفضة برشلونة يستعيد صدارة الليغا باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب دوبلانتيس يُحطّم رقمه القياس رعاية طبية وعمليات جراحية مجاناً.. "الصحة" تطلق حملة "أم الشهيد" ليست للفقراء فقط.. "البالة" أسعار تناسب الجميع وبسطاتها تفترش أرصفة طرطوس