الدُّنيا شتاءٌ آخرُ… أكثرَ حلكةً وفراسةً وغرابةً، وما من صُبْحٍ يَهِلُّ معَ زقزقَةِ عصافيرِ الرَّبيع، أو تفتُّح زهرِ اللَّوز، أو صوت «القِرّ قْرِيْرْ»* معلنينَ طردَ آخرِ ذئابِ البردِ لشتاءٍ غيرِ مرغُوبٍ فيه، ليومٍ واحد، ولو بضعة أيام لآخَرَ أكثرَ دِفئاً يرحَمُ ساكِنِي هذهِ الأرضِ المسَاكين…
والوقتُ زمنٌ جديدٌ متهالِكٌ آخَرُ، من عُمْرِ هذا الجَسَدِ النَّبيلِ، والكَائِنِ المَقدُود من عناءٍ، المَكدُودِ من ألمٍ، الذي لم يبقَ مارقٌ ولاآبقٌ ولا عاقٌّ ولا فاسدٌ ولا منافقٌ ولا شيطانٌ ولا وحشٌ ولا ابنُ زانيةٍ ولا عاهرٌ ولا لصٌّ ولا زنديقٌ ولا قرصانٌ ولا قاطعُ طريقٍ، إلا وأنشبَ مخالبَهُ وسكاكينَ حقدِهِ وخناجرَ غدرِهِ فيه…
لم يبقَ «جني» ولا «إنسيٌّ» ولا أفَّاقٌ ولا دجَّال، ولا جلادٌ ولا سجَّان ولا إخوانيٌّ ولا وهَّابيٌّ ولا كافرٌ ولا إرهابيٌّ ولا طاغيةٌ، إلا وولَغَ فيه، حتَّى لم يَعُدْ فيهِ منْ جِيناتِ إلَهٍ، ولَوْ خليةٍ صبغيَّةٍ واحدةٍ.
لم يبقَ بُوقٌ ولا بَوَّاق، مُتَأَمْرِكٌ أو مُتَهَوِّدٌ، رُومِيٌّ أو أعجَمِيٌّ، بربريٌّ أو تتريٌّ، مغولِيٌّ أو صليبيٌّ، أو أشَدُّ أو أتفَهُ من أولئكَ سبيلاً، إلَّا واجْتَمَعَ عليه: صديقاً كان أم عدواً، بريئاً أم طاهراً، سليمَ النِّيَّةِ أو خبيثَهَا…
والدُّنيا مواكِبُ شُهداءَ بالمجَّان، ودمٌ يُهْرَقُ سِفاحاً ويُسْفَحُ مِهْراقاً بغيرِ وجهِ حقٍّ، إلا حقِّ هذا التُّرابِ الطَّاهِرِ المُقدَّسِ بالرَّواء…
الدنيا وجهُ طفلٍ عارٍ عن صحَّةِ البراءة، وطفلةٍ دخَلَتْ قواميسَها مفرداتُ «بندُقيَّة» و»سِكِّينٌ» و»دَمٌ» و»بابا شَهيد»…
والوقتُ، ما الوقتُ؟… لم يَبْقَ ثمَّةَ قابضٌ على جَمْرِ الحقيقةِ، فقد ذهبَتْ يدُهُ مع الجَمْرِ…
والوقتُ، ما الوقتُ؟… لم يَعُدْ ثمَّةَ مؤمنٌ أو كافرٌ، قوياً كانَ أم ضعيفاً، فالكلُّ متشابهون بإهاب واحدٍ، وابتسامة واحدة لوجهٍ بآلاف الذِّئاب، و ذئبُ «يوسُفَ» بريءٌ مما يصفون…
الكلُّ «يعقُوبُ»… والكُلُّ «يوسُف»، والكُلُّ «يَهُوذا».. فأيْنَ الحقُّ وأين الحقيقةُ، ومن الظَّالمُ ومن المظلوم…
سَوَّدْنا قُلُوبَ الأرباب، وحرَّفْنا صحائِفَ الرُّسُل، وشوَّهْنا سرائِرَ العارفين…
باتَ يلزمُنا «أنبياء» أُخرٌ، و»هداة» جددٌ، و»مُحَمَّدُ» يَبْرَأُ من خطايا أهلِ «مُحَمَّدٍ»… وأتباعِ «محمَّدٍ».
وأشهدُ…باسمِ الشَّعب…باسمِ الأرض…باسمِ الشَّهيد…
باسمِ دمائه حبرِ كتابِ الصَّالحين..
باسمِ القِدِّيسين..باسمِ إخوتي من عمَّرُوا أضرحَتي ورحلُوا وقد انهدَّ صرح غوايتهم في العالمين
باسم الدَّراويش، شوقِهم إلى فتنة الله… والمجذوبين
باسم أمِّي، غنائِها، رفيقِ الرُّعاةِ إلى البساتين
باسمِ أديرتك.. وكنائسك.. وصوامعك.. وتكاياكِ.. ومساجدك.. وشواهقك.. ومغاورك.. وأوابدكِ.. وأضرحة أنبيائك.. وصلبانهم .. ومراقدِ رؤوسهم
باسمِ أبنائك المقتولين بك وفيك ولأجلك
باسمِ عويلِ دمائهم..أبنائِكِ المظلومين المفجوعين بك وعليكِ
باسمِ دمك الكريم المسفوك من قبل الطغاة.. والغزاة.. والعابرين ..
أشهدُ..وأمام نواميسِ الكون وأبجديَّات الزَّمان، أنَّك أوقيانوسُ الكرامة السَّرمدية، وعلى خدِّ الزمان قُبلة الله الأبديَّة … وأشهدُباسمِ الشَّعب…باسمِ الأرض..باسمِ الشَّهيد…
أنكِ مقبرة الطغاة على مرِّ الزَّمان أنتِ يا شام…
ولْتذْكُرْ أيُّها التَّاريخُ، كما الشَّعْبِ، كما الله،هذا الشِّتاءَ الليلَ القاسيَ الطَّويل،
وهذه المحنةَ الأشدَّ الأقسى الأفتكَ، على هذا الشَّعبِ الكريم، المُصابِرِ الصَّابر المَظلُوم…
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 26-4-2019
الرقم: 16965