في التاسع عشر من كانون الأول الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو تعقيباً على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سورية..(لن نختفي وراء الجدران)، هذه الكلمات كانت كفيلة بفك شيفرات إستراتيجية الولايات المتحدة ليس خلال المرحلة الحالية فحسب، بل والمرحلة المقبلة أيضاً، حيث بدأت الأخيرة بتطبيق (إستراتيجية القتل الناعم) ضد الدولة السورية من خلال ضرب العمق السوري عبر ممارسة الإرهاب الاقتصادي الذي يهدف إلى تجويع وإيلام السوريين ما يشكل نواة ضغط متدحرجة قد تكون من المنظور الأميركي وسيلة ضغط إضافية على دمشق تثنيها عن مواقفها وخياراتها السياسية والسيادية.
بحسب الواقع فقد دخلت الحرب على الدولة السورية مرحلة جديدة هي الأصعب والأشرس منذ نحو ثمانية سنوات في محاولة قد تكون الأخيرة من قبل منظومة الإرهاب بزعامة الولايات المتحدة والغرب الاستعماري لإركاع السوريين وإخضاع قرارهم السيادي والمصيري إلى الأهواء والمطامع والطموحات الاستعمارية التي تلهث أطراف الإرهاب لجعلها حقيقة وأمراً واقعا على الأرض، يأتي هذا في وقت تتواتر فيه المعلومات عن قرب انطلاق معارك التحرير في الشمال السوري حيث أكدت مصادر أن الجيش العربي السوري يواصل إرسال المزيد من التعزيزات العسكرية إلى ريف حماة، وأفادت المصادر بأن التعزيزات العسكرية الكبيرة إلى محاور مختلفة من ريف حماة الشمالي المتاخم لمنطقة اتفاق «خفض التصعيد»، تأتي تمهيداً لعملية عسكرية سيتم من خلالها توسيع نطاق الأمان حول القرى والبلدات الواقعة بمحاذاة منطقة الاتفاق، وأضاف المصدر أن الجيش العربي السوري لن يبقى في موضع الرد وأن عملية تطهير منطقة اتفاق ادلب باتت ضرورة لا يمكن تأجيلها في أعقاب انتصار حلب الكبير على الإرهاب قبل نحو عامين – وهو الانتصار الذي مهد فيما بعد لانهيار المجاميع الإرهابية في الجنوب السوري وفي محيط دمشق وريفها ما شكل منعطفاً حاداً في الحرب لمصلحة دمشق وحلفائها- ، في أعقاب ذلك الانتصار المهم قلنا إن الحرب على سورية سوف تستعر وتستشرس أكثر وأكثر وسوف تحمل معها المزيد من الوجع والألم للشعب السوري والذي سوف يضاف الى ذلك الوجع الذي راكمته سنوات الحرب الماضية، فالدول التي رعت وتبنت الإرهاب وصدرته إلى سورية والمنطقة والتي لا تزال تراهن عليه لتحقيق أوهامها وطموحاتها لا يمكنها أن تستسلم أو تخضع بسهولة على قاعدة أن الدول خاصة الكبرى منها عندما تريد أن تحتضر فإنها تحتضر على فراش الآخرين، وهذا برغم مسيرة إخفاقاتها المتكررة في الميدان والتي آلت إلى هزيمة نكراء وباعتراف معلن من تلك الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وقلنا أيضاً إن تلك الدول الاستعمارية سوف لن تألو جهدا لاستخدام أبشع الأساليب والوسائل لإيلام وتعذيب الشعب السوري الذي يمثل أيقونة الكرامة والصمود والضمير العربي والعالمي.
اليوم دخلت الحرب على الدولة السورية أخطر مراحلها على الإطلاق، حيث قررت دول الإرهاب محاربة السوريين بلقمة عيشهم وشريان حياتهم عبر حصارهم اقتصاديا ومنع وصول المواد الأساسية إليهم، وهي إحدى الوسائل الاستعمارية القذرة التي تستخدمها الدول الاستعمارية لاسيما الولايات المتحدة التي أيقنت أن حربها الإرهابية ضد الشعب السوري باتت خاسرة وان مشروعها التخريبي والتدميري بات في مهب الريح، ومرد هذا التطور هو قناعة الإدارة الأميركية وحلفائها بهزيمتهم في الميدان وعدم قدرتهم على تغيير الواقع المرتسم على الأرض بقواعده ومعادلاته التي شكلت رافعة سياسية لدمشق لفرض حضورها وشروطها على الطاولة، وبالتالي فإنه يمكن القول إن هذه الحرب الاقتصادية التي تشن ضد الشعب السوري هدفها الأساس هو مزيد من الضغط السياسي على دمشق لانتزاع ما لم ينتزع منها في الميدان، وهذا بأبسط أبجديات السياسة والحرب بات شيئا مستحيلاً بعد نحو ثمانية سنوات عانى خلالها الشعب السوري كل أنواع الإرهاب والقتل والوجع وكانت إرادته في المواجهة والتحمل حيال ذلك استثنائية أدهشت وأذهلت دول العدوان والعالم بأسره.
المشهد الميداني على الأرض لجهة التصعيد المتواصل على جبهات الشمال لا يزال يشكل رهاناً أساسياً لمنظومة الإرهاب، ليس هذا فحسب بل لا يزال يشكل داعماً وحاملاً لكل المواقف والمشاريع الأميركية والإسرائيلية والتركية ليس في سورية وحدها بل في المنطقة والعالم بأسره، ولعل المعلومات التي تحدثت عن مواصلة النظام التركي نقل مئات الإرهابيين من سورية الى ليبيا تؤكد هذه الحقيقة وصولا إلى إماطة اللثام عن كل محاولات أطراف الإرهاب لتفجير الأوضاع وتسخين الجبهات واستهداف مواقع الجيش العربي السوري وقصف مناطق المدنيين، ناهيك عن محاولات جديدة لاستخدام الأسلحة الكيمائية، ولعل ما قالته موسكو منذ أيام عن تحضير المجموعات الإرهابية لاسيما (جبهة النصرة) و(جماعة الخوذ البيضاء) الإرهابيتين للقيام بعمل إرهابي كبير بالأسلحة الكيميائية يسير في هذا الاتجاه.
وفي سياق التصعيد الميداني الذي تقوم به المجاميع الإرهابية فقد نفذت وحدات من الجيش العربي السوري خلال الساعات الماضية عمليات نوعية ضد تجمعات وتحركات إرهابيي تنظيم (جبهة النصرة) والمجموعات التي تتبع له بريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي وذلك في إطار الرد على خروقات التنظيم التكفيري المتكررة لاتفاق منطقة خفض التصعيد، حيث نفذت وحدة من الجيش ضربات صاروخية على تحرك لآليات تنظيم (جبهة النصرة) الإرهابي على أطراف بلدة ترملا بريف إدلب الجنوبي، كما قامت وحدة من الجيش باستهداف مواقع وتحصينات لإرهابيي (الحزب التركستاني) في المنطار وتلة خطاب بمحيط مدينة جسر الشغور بريف إدلب الجنوبي الغربي ما أسفر عن إيقاع قتلى ومصابين بين صفوف الإرهابيين وتدمير أوكار ومواقع لهم، وفي ريف حماة الشمالي وجهت وحدات من الجيش العربي السوري ضربات صاروخية ومدفعية على آليات لإرهابيي (جبهة النصرة) و(كتائب العزة) و(الحزب التركستاني) على أطراف قريتي قلعة المضيق والزكاة وفي قرية العنكاوي وبلدة جعاطة ومحيط القصابية بجبل شحشبو أسفرت عن مقتل عدد من الإرهابيين وتدمير أوكار ومنصات إطلاق قذائف لهم.
وقبل ذلك بساعات قليلة قضت وحدات الجيش العربي السوري على أعداد من إرهابيي (جبهة النصرة) ودمرت آليات ومقرات محصنة لهم في قرى وبلدات الهبيط والقصابية وارينبة وعابدين بريف إدلب الجنوبي، كما استهدفت وحدات أخرى من جيشنا عدة محاور تسلل للإرهابيين في منطقة خفض التصعيد بريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي الغربي، كما وجهت وحدات الجيش العربي السوري رمايات نارية مركزة طالت محاور تسلل مجموعات إرهابية كانت تتحرك برفقة آليات بعضها مزود برشاشات تابعة لتنظيم جبهة النصرة على الطريق الواصل بين بلدتي الكركات وقلعة المضيق بالريف الشمالي الغربي.
وإلى الشمال الشرقي من مدينة جسر الشغور بريف إدلب قامت وحدة من الجيش بتوجيه ضربات مركزة على أوكار وتجمعات لإرهابيي تنظيم جبهة النصرة في محيط بلدة البشيرية أدت إلى تدمير وكر لإرهابيي التنظيم التكفيري وإيقاع قتلى ومصابين في صفوفهم بعضهم من جنسيات أجنبية، يأتي هذا في وقت واصلت فيه المجموعات الإرهابية خرقها اتفاق منطقة خفض التصعيد حيث اعتدت أمس على مدينة السقيلبية وبلدة شطحة بالقذائف الصاروخية بريف حماة الشمالي.
في السياق السياسي كان بارزا أمس تصريح وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الذي أكد فيه موقف بلاده حيال حق الدولة السورية في تطهير جميع أراضيها من الإرهاب، مضيفاً أن ادلب لن تكون بؤرة دائمة للإرهابيين، ومؤكداً أن التنظيمات الإرهابية تواصل استفزازاتها في منطقة خفض التصعيد بإدلب وأنه لا يمكن السماح ببقائها فيها وفي مناطق أخرى من البلاد مشدداً على حق الحكومة السورية في ضمان سلامة مواطنيها.
وأضاف لافروف أن التنظيمات الإرهابية وخاصة جبهة النصرة تسيطر على معظم مساحة إدلب وتواصل خرق اتفاق منطقة خفض التصعيد فيها وتستمر باعتداءاتها على المدنيين واستفزازاتها ضد الجيش السوري وهو ما لا يمكن السكوت عنه ولا يمكن السماح ببقاء الإرهابيين في إدلب، موضحاً سعي موسكو لتحقيق الاتفاق بين روسيا وتركيا فيما يتعلق بتنظيم جبهة النصرة الإرهابي بمنطقة خفض التصعيد في إدلب، وقال لافروف: نحن سننطلق من أن الحكومة السورية تملك الحق الكامل في ضمان أمن مواطنيها على أراضيها مؤكداً أن الوضع لا يمكن أن يبقى على حاله إلى ما لا نهاية مع استمرار نشاط تنظيم هيئة تحرير الشام الإرهابي، وأن للحكومة السورية الحق الكامل في تطهير جميع تلك المناطق من الإرهاب، وذكر لافروف أنه لم يسمع بجدار عفرين وقال: إن أنقرة أكدت أن جميع إجراءاتها ضد الإرهاب مؤقتة في شمال سورية، مشدداً على ضرورة العمل باتفاق أضنة وفق تعبيره، وشدد لافروف على أن قيام أميركا بإطلاق سراح الإرهابيين الأجانب الذين تحتجزهم في سورية سيكون جريمة، وقال: هناك ازدواجية في المعايير، فمن جهة يتم التعامل مع ملف مكافحة الإرهاب بالسجون السرية وغوانتانامو والاعتقالات التعسفية، ومن جهة تتحدث الولايات المتحدة عن إمكانية الإفراج عن الإرهابيين الأجانب المعتقلين لدى قسد، لا يمكن التعامل مع الأمر من منطلق المصالح الآنية.
وأضاف لافروف: تتجلى المعايير المزدوجة في حقيقة أن زملاءنا الغربيين وخاصة الاوروبيين وفي أجزاء أخرى من العالم لا يريدون استقبال الإرهابيين الأجانب الذين تم اعتقالهم في سورية وهناك خلاف حول مصيرهم، فالأميركيون يهددون بإطلاق سراحهم وهو ما سيكون جريمة، والأوروبيون الذين يحمل هؤلاء الإرهابيون جنسية بلدانهم يرفضون استقبالهم، ولفت لافروف إلى أنه إذا ما تم التعامل مع الإرهابيين بشكل مزاجي ووفقا للمصلحة الآنية سيكون ذلك قصر نظر في غاية الخطورة.
وسبق أن قامت الولايات المتحدة بتهريب مجموعات إرهابية إلى خارج سورية أو نقلهم بطائراتها من منطقة إلى أخرى داخلها لإكمال جرائمهم بحق السوريين، ومع إلحاحها المتزايد تحاول واشنطن إنقاذ من تبقى من وكلائها الإرهابيين الذين انتهى دورهم الاجرامي عبر إعدادها خططاً فورية لتهريبهم إلى خارج سورية والضغط على حلفائها لاستقبال رعاياهم منهم.
وفي ذات السياق فقد أكد لافروف أن نحو 50 دولة و12 منظمة دولية انضمت إلى قاعدة البيانات الخاصة بالإرهاب والمنظمات الإرهابية التي أنشأها جهاز الامن الفيدرالي الروسي، في حين أن دولاً غربية رئيسية لم تبادر إلى القيام بذلك حتى الآن، وقال لافروف: إن الهدف من قاعدة البيانات هذه تتبع تحركات الإرهابيين والمقاتلين الأجانب في أنحاء العالم، معرباً عن قلق موسكو لكون المبادرة الخاصة بإنشاء جبهة عالمية لمكافحة الإرهاب تحت رعاية الامم المتحدة والتي طرحها الرئيس فلاديمير بوتين عام 2015 لم تحظ بدعم الغرب الذي يستخدم معايير مزدوجة في الحرب على الإرهاب.
فؤاد الوادي
التاريخ: الخميس 2-5-2019
الرقم: 16969