تعود إشكالية آلية صنع القرار الأميركي إلى واجهة التداول داخل أروقة البيت الأبيض بعد أن عاد الحديث عن تدخلات كبيرة للكونغرس الأميركي في قرارات الرئيس ترامب، ولاسيما فيما يخص الملف السوري، وهذا تجلى واضحاً في قرارات الكونغرس الأخيرة ضد الشعب السوري لجهة العقوبات الاقتصادية التي فرضها ووافق عليها الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب، وهو الأمر الذي دفع بـ (حقيقة الدولة العميقة) التي تتحكم وتصنع القرار الأميركي إلى سطح الأحداث في الداخل والخارج الأميركي.
ضمن هذا السياق يسعى الكونغرس الأميركي للمحافظة على الاحتلال العسكري الأميركي في المنطقة عموماً وفي سورية على وجه الخصوص، ذلك أن انسحاب جنود الاحتلال الأميركي من وجهة النظر الأميركية سوف يعود بالمنفعة على خصوم الولايات المتحدة وسوف يضر بحلفائه، ومن هنا فإنه يجب على لجان مجلسي النواب الشيوخ المعنية بالقوات الأميركية والشؤون الخارجية استخدام منبر القوة الذي يتمتع به الكونغرس ضد الرئيس الأميركي – ويشمل ذلك جلسات الاستماع والبيانات العامة والرسائل إلى المسؤولين في إدارة ترامب والظهور الإعلامي، لكي يبرهنوا للرئيس ترامب كما للداخل الأميركي أهمية القوات الأميركية في سورية، وسواء تم تنفيذ الانسحاب الأميركي من سورية أم لا، فإنه يجب على الكونغرس أن يخطط لإشراف متين على كل مرحلة من هذه العملية، وهذا بدوره يعكس حضور ودور الكونغرس في التأثير على قرارات الرئيس الأميركي.
وبرغم كل الغموض الذي يلف آلية صنع القرار الأميركي الذي يتوازع مفاتيحه عدة مؤسسات رسمية، إلا أن حقيقة وجود من يتحكم بالقرار الأميركي باتت واضحة ومعروفة للجميع تحت عنوان (الدولة العميقة)، وخصوصاً في ظل إدارة الرئيس ترامب الذي قاد مواجهة مبكرة معها حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، حصل ذلك أثناء حملته الانتخابية ليصطدم في وقت لاحق بالقوة الخفية في الولايات المتحدة التي يمثلها اللوبي الصهيوني واللوبي الاقتصادي واللوبي الاستخباراتي والكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ.
و(الدولة العميقة) التي يتصدرها الكونغرس الأميركي بمجلسيه تضع إستراتيجية البلاد وترسم عناوينها وحدودها وخطوطها الحمراء التي تدفعها إلى التدخل عندما يغدو الأمر ضرورياً ومفصلياً لمصالح الدولة العليا، فالدولة العميقة في أميركا هي الجهة الواضعة لسياسة البلد سواء على المستوى الداخلي أم على المستوى الخارجي فيما يضطلع الرئيس بمهمة التنفيذ فقط، حيث يدفع به الى واجهة صنع القرار وتحمل التبعات والتداعيات عن أي قرار خطأ، وهذا ما حصل عندما أعلن ترامب سحب جميع قواته من سورية ما أثار غضب الكونغرس الأميركي الذي ضغط على الأخير ليبقي مئات من الجنود الأميركيين في الجغرافيا السورية. ديفيد أغناتيوس أحد أهم كتاب الشأن الأمني في الإعلام الأميركي، قال في صحيفة الـ(واشنطن بوست) قبل فترة وجيزة تعقيباً على مشاركته اجتماعاً للمؤسسة الاستخباراتية والأمنية في الولايات المتحدة: (للمرة الأولى في حياتي أرى الدولة العميقة بهذا القدر من الوضوح في أميركا)، وهذا الكلام قاله أغناتيوس بعدما سمع لكلمات الحضور الذين أعربوا عن استيائهم من سلوك ترامب ومن تجاوزه لكثير من الخطوط الحمراء الموضوعة له؟!، حتى إن بعضهم وهو جيمس كلابر المدير السابق للاستخبارات الأميركية والذي شغل منصبه في عهد العديد من الرؤساء الأميركيين، قال: إن ترامب لا يصلح للجلوس إلى كرسي الحكم وهو غير جدير بمنحه الثقة لاستلام رموز وشيفرات الأسلحة النووية.
سياسة إدارة الرئيس ترامب حيال كثير من الملفات والقضايا وعلى رأسها القضية السورية والاتفاق النووي الإيراني والعلاقة مع روسيا كشفت وبوضوح حقيقة صناعة القرار الأميركي، ذلك أن جميع تلك الملفات كانت تصطدم بما تريده الدولة العميقة وليس بما يريده الرئيس ترامب، الذي كان ولايزال يحاول العزف منفرداً وحيداً بعيداً عن سلطة وأعين وقرار وخطوط الدولة العميقة، وهذا الأمر كان ينعكس تخبطاً وفوضى داخل البيت الأميركي الذي يعاني أصلاً التصدع نتيجة جملة من الملفات والقضايا الشائكة، وكذلك نتيجة التحولات الكبرى التي بدأت تعصف بالمشهد الدولي برمته.
وتتمثل الدولة العميقة في الولايات المتحدة بشبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت، والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
ومن أجل المحافظة على بقائها واستمراريتها كمنظومة تقوم على شبكة معقدة من المصالح يعتبر اللجوء إلى خيار العنف والحسم أبرز الأدوات الفاعلة في الدولة العميقة، وذلك خارج إطار القانون، حيث يتم اتخاذ العديد من الإجراءات الرادعة والأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي بذريعة وجود عدو متربص لابد من التأهب دائماً لصده لما يشكله للدولة من تهديد. وتقوم الدولة العميقة أحياناً بانتهاج سياسة الخداع والتضليل لتشتيت الرأي العام ولفت انتباهه عن الحقيقة بهدف القيام بمخططات التدمير والتقسيم واحتلال الدول والشعوب، وهذا بالضبط ما تفعله الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وتقوم منظومة الدولة العميقة بالسيطرة على المؤسسات الاقتصادية من أجل الحفاظ على شبكة المصالح الاقتصادية التي تستفيد منها بشكل دائم للضغط والتهديد.
الى جانب ذلك تقوم الدولة العميقة باستقطاب واختراق المؤسسات السيادية في الدولة كالمؤسسة العسكرية (البنتاغون) والتوغل داخل أجهزتها الإدارية والتنفيذية بغية التحكم بصياغة القرارات الحساسة والاستثنائية.
ومن الضروري معرفة أن الدولة العميقة لا تمتلك أي منظومة أخلاقية تردعها عن القيام بما تشاء من حروب وانقلابات وأجندات تدميرية داخل أو خارج حدودها، فكل ما يمكن أن يحقق مصلحتها يعد مباحاً، بما في ذلك جرائم الإرهاب والقتل وتجارة المخدرات وتبييض الأموال التي تمول نشاطاتها، كل ذلك على قاعدة أن (الغاية بغض النظر إن كانت نبيلة أو لا تبرر الوسيلة حتى لو كانت قذرة). وتخوض الدولة العميقة في الولايات المتحدة حروبها ومعاركها تحت عناوين وشعارات إنسانية منها حماية الحريات وحقوق الإنسان والحرب على الإرهاب وما إلى ذلك من شعارات باتت مفضوحة وساذجة.
التاريخ: الخميس 2-5-2019
الرقم: 16969