إحدى الدراسات العلمية تقول إن الممثل مع كل شخصية يتقمصها في أدواره يفقد جزءاً ولو ضئيلاً من شخصيته الأصلية تلك التي لم تدخل عليها بعد الشخصيات الروائية. فهذه الشخصيات التي يتقمصها الفنان، أو يلبسها بتعبير آخر، هي التي تعبر في رسم حدودها عن نماذج إنسانية تقع في حيز الواقع.. ولعل براعة الممثل في أدائها هي ما تجعلها باقية، وعالقة في الأذهان.. وحاله يشبه حال الكاتب عندما يبرع في رسم الشخصية الافتراضية بما يقابلها من نموذج إنساني هو من لحم، ودم، ويمكن مصادفته في الحياة.. ومن هذا المنطلق تفوقت أعمال كبار كتّاب العالم في الشرق، والغرب.. وبقيت أعمال سينمائية، وتلفزيونية خالدة تستقبل إليها كل يوم مزيداً من المشاهدين رغم ما مر عليها من السنين.
ويبقى الممثل، أو الفنان هو الذي يدفع الثمن من أصالة روحه، وطبيعتها الأولى مقابل ما يتقاضاه من أثمان قد تشكل له بتراكمها ثروة مادية فائقة لا تدعه بالتالي يقف على ما خسره من ثروته الروحية التي شكلت شخصيته الأصلية، ولا يلتفت إلى ما كان عليه قبل أن يخوض غمار التمثيل، ويدخل في عالمه المثير.
ليس هذا فحسب بل إن الناس قد لا يفصلون بين شخصية الفنان في حياته الاعتيادية، وممارساته اليومية، والنظرة إلى أعماله الفنية.. أو أنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك في محاكمة العمل الفني بناءً على السلوك الشخصي.. كذلك هو حال الكاتب أيضاً عندما يضع بضعاً من ذاته في كل كلمة يخطها، وحادثة ينسجها، وشخصية يرسمها لتكون المحاكمة على الاثنين معاً هذا وذاك، المبدع ونتاجه باعتبارهما واحدا.
لكن حلاً ذكياً، وإنقاذاً مبدئياً لاح في أفق الكاتب عندما خرج الناقد، والفيلسوف الفرنسي (رولان بارت) بنظرية (موت المؤلف) ليفصل الكاتب عن نصه الأدبي، باعتبار أن النص هو الذي يتحدث إلى القارئ، وليس كاتبه.. لكن هذا بدوره يتطلب قارئاً مطلعاً، وعلى درجة من الثقافة يستطيع معها أن يطلق أحكاماً صحيحة تضع النتاج الأدبي، والفني في موقعه الصحيح كما أحجار الشطرنج تقع على ما خُصص لها من مربعاتها. وما لم يتوافر هذا القارئ النموذجي للنص الذي أعلن عن موت مؤلفه فسيظل الحكم يطول المؤلف باعتباره صاحب نصه.
إلا أن مثل هذه المقولات قابلة للنقاش رفضاً، أو قبولاً.. استحساناً، أو استهجاناً.. ولهذا فهي ليست حاسمة، ولا نهائية بدليل ما يصيب الكاتب، والفنان وكلٌ في مجاله من أحكام سواء أكانت من قبل شخص عادي متواضع الثقافة، والاطلاع، أم من المثقفين أنفسهم الذين اتكأوا إلى معايير أخرى في النقد، والتقييم.
فإذا كان تمثيل الشخصيات التي نجد لها شبيهاً في الواقع كشخصية الموظف مثلاً، أو المعلم، أو المرابي، أو حتى المجرم، أو القديس، وغيرها كثير، أقول إذا كانت هذه النماذج كلها تستلب من الممثل جزءاً من شخصيته فماذا سنقول عن تلك الشخصيات الخيالية المبتكرة حديثاً، والغرائبية، والتي بات لها حيزاً كبيراً في مجال السينما.. أو الأخرى الرقمية المصنّعة، والمستوحاة من الواقع الرقمي الذي نتحرك ضمنه، والتي يؤدي الممثلون أدوارها على شاشات السينما؟.. ماذا ستستلب من الفنان، أو ماذا ستضيف إليه عندما يتماهى معها، ويخرج إلى جمهوره على أنه هي؟.. وكذلك هو حال الكاتب عندما يطوّع شخوصه لتخدم فكرته!
لعل مثل هذه الأدوار التي انبثقت عن نماذج معاصرة جديدة على الفن، والأدب ستمهد لفهم المقصد منها فيما تقدمه لنا.. ولعل نقل، أو إيصال روح هذه الشخوص المستحدثة إلى المتلقي يفتح باباً لفهم أكبر لمفردات طارئة أصبحت تعيش بيننا، أو أنها أحاطت بنا لنعيش في دائرتها.. أما العودة إلى زمن ما قبلها فقد أصبح غير واردٍ لأنها مرحلة حضارية تنتقل من خلالها المجتمعات من حال إلى حال.. فالتعرف إلى الجِدة لا يسمح بالعودة إلى القِدم.. وليس الجديد بما يوفره يشبه القديم بما يحده.
وسواء تحقق (موت المؤلف) على يد (بارت)، أو ضاع جزء من شخصية الممثل البطل يظل للفن سحره، وللأدب موقفه من الحياة.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 3-5-2019
الرقم: 16970