استعادة الجغرافيا السورية المخطوفة عسكرياً وإصلاح التشوهات التي أحدثها وجود الجماعات الارهابية التكفيرية في جزء من هذه الجغرافيا شمال غرب البلاد، والمقصود هنا ما تبقى من محافظة إدلب «معقل جبهة النصرة» وأجزاء من أرياف حلب وحماة بعد أن تحرر معظم التراب السوري من رجس الارهاب ـ دون إغفال منطقة الجزيرة السورية حيث بقايا الاحتلال الأميركي وميليشياته «قسد» العميلة له ـ سيكون عنوان المرحلة القادمة بكل تأكيد، بعد أن تعثرت كل المحاولات الصديقة للتهدئة وخفض التصعيد واستتباب الأمن والاستقرار، وبعد أن استنفد مسار آستنة التفاوضي وكذلك اتفاق سوتشي المتفرع عنه كل وسائله بإقناع النظام التركي بالتخلي عن رهاناته وأجنداته وأطماعه وأوهامه الخاصة بشأن توسيع هيمنته ونفوذه في الإقليم واستعادة بعض «أمجاد» السلطنة العثمانية البائدة، ومساعدته على الدخول في تسوية جدية توفر الشروط الملائمة لحل حقيقي ودائم للأزمة في سورية.
ليس سراً أن نظام أردوغان، الذي ما زال يسبح في فضاء المشروع الأميركي المُعد للمنطقة باعتباره جزءاً من تحالف عسكري قديم اسمه حلف شمال الأطلسي «الناتو»، على الرغم من كل الضربات الاقتصادية القاسية التي تلقتها تركيا مؤخراً من قبل إدارة ترامب، ما زال له حساباته الخاصة في المنطقة وفي سورية تحديداً، وقد كشفت أزمات مصر وتونس والسودان وحرب ليبيا عن بعد «إخواني» فاقع في النظرة التركية لمجمل الأحداث والتطورات في المنطقة، كما تجلى ذلك بشكل واضح وجلي على الأرض السورية، إذ كان النظام التركي الإخواني سباق على معظم الأطراف الخارجية في الاضطلاع بدور سلبي في الأزمة في سورية عبر دعمه لمختلف الجماعات المتطرفة الارهابية وفي طليعتها تنظيم الإخوان المسلمين وفصائله الارهابية متعددة الأسماء، بالإضافة إلى داعش وجبهة النصرة وتفرعاتهما القاعدية، واستثماره بطريقة بشعة في ملف النازحين السوريين وتوظيف هذا الملف في إطار مصالحه وأطماعه الخاصة، إضافة لدعمه واحتضانه السياسي والمالي والإعلامي لما يسمى «مجلس اسطنبول» الذي ادعى تمثيل ما يسمى «المعارضة السورية» في الخارج والداخل، وهذا ما فرض على الأصدقاء الروس حلفاء سورية في محاربة الارهاب، وذلك نتيجة للاعتبارات السابقة وبعض الاعتبارات الأخرى، ومن زاوية الرغبة في وقف الحرب وتخفيف التوترات الإقليمية والعمل على حل سياسي حقيقي في سورية، التنسيق مع الجانب التركي والعمل معه كجهة ضامنة لعدد من فصائل ما يسمى «المعارضة المسلحة» ـ طبعاً مع التحفظ الكامل على المصطلح لكون هذه الفصائل هي جماعات إرهابية مارست التطرف والإرهاب بشتى صوره وأشكاله ـ من أجل خفض التصعيد والعمليات العسكرية كمرحلة أولى وصولا إلى وقف إطلاق النار في مرحلة لاحقة ومن ثم تهيئة الظروف المناسبة للشروع في حل سياسي، غير أن أولويات النظام التركي وحساباته الخاصة في ملفات داخلية وخارجية وارتباطاته بقوى دولية وإقليمية جعلته يراوغ ويماطل ويختلق الأعذار والمبررات ويطرح الأفكار التسويفية المعطلة أملاً منه في تغير الظروف الدولية واستعادة الحرارة إلى علاقاته مع إدارة ترامب التي تملك أجندة خاصة بها تراعي المصالح الإسرائيلية أكثر مما تراعي المصالح التركية.
هذا الأداء المراوغ والمتناقض حيناً والبراغماتي الزئبقي في أحيان أخرى من قبل النظام التركي إزاء الاتفاقات التي وقعها مع روسيا وإيران في العامين الماضيين أعطى رسائل خاطئة ـ معظمها رسائل متعمدة ومقصودة ـ للجماعات الارهابية المتطرفة في محافظة إدلب وشمال غرب حلب وخاصة «جبهة النصرة الارهابية» لخرق اتفاقات خفض التصعيد وتقوية نفوذها على حسابات الجماعات «الأقل تطرفاً» وبسط سيطرتها على الأرض ومحاولة اللعب بالجغرافيا مجدداً في تكرار لما جرى في العامين 2013 و2014 من أجل استثمار التطورات الجديدة لحساب الأجندة التركية في منطقة الجزيرة السورية، حيث يسعى نظام أردوغان لقضم الجغرافيا بالتدريج بعناوين مختلفة منها مثلا ما اصطلح عليه مؤخراً «بالمناطق الآمنة» في مواجهة ما يدّعيه من خطر بشأن الوجود الميليشياوي الكردي المدعوم أميركياً على الأمن القومي التركي.
هذا الخرق المتكرر لاتفاقات خفض التصعيد والمنطقة منزوعة السلاح والإرهابيين وكذلك شن اعتداءات إرهابية متكررة على نقاط الجيش العربي السوري والمدن والبلدات الآمنة على تخوم محافظة إدلب، واستهداف قاعدة حميميم بطائرات مسيرة وصواريخ، وضع تفاهمات آستنة واتفاق سوتشي في مهب الريح وفرض على الدولة السورية وحلفائها التعاطي بحزم مع هذه الاعتداءات الإجرامية والعمل على إصلاح التشوه الجغرافي الذي أحدثه الوجود الإرهابي في هذه المنطقة، إذ لا يمكن لدولة تحترم سيادتها وقدمت عشرات آلاف الشهداء دفاعاً عن شعبها وصونا لاستقلالها أن تسكت على ما يرتكبه هؤلاء الإرهابيون من جرائم أو أن تتسامح إزاءها مهما كانت المبررات والمزاعم التي يطلقها الآخرون سواء النظام التركي أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، لأن سلامة أرواح المدنيين السوريين هي أمانة غالية في أعناق أبطال الجيش العربي السوري، في حين أن استئصال هذا التشوه الطارئ على الجغرافيا السورية بات في قمة أولويات الدولة السورية وفي قمة واجباتها تجاه مواطنيها وأرضها، ولا شك أن كل القوانين والشرائع الدولية تدعم حقها في هذا المجال وتكفل لها حرية القضاء على الارهاب بكل الوسائل الممكنة والمشروعة وخاصة القوة العسكرية إذ لا يمكن السكوت على بقاء نحو ميلوني مدني سوري رهينة لإرهابهم الأسود وأفكارهم المتخلفة، وإذا كان الآخرون يقطعون آلاف الأميال ببوارجهم الحربية وطائراتهم وجيوشهم بذريعة محاربة الارهاب في مناطق بعيدة عن دولهم وشعوبهم كما تفعل أميركا وفرنسا وغيرها، فإن من حق السوريين أن يحاربوه على أرضهم وهو القادم إليهم من أربع جهات الأرض.
لقد أصبح في معلوم العالم أجمع أن سورية أعطت الكثير من الفرص لهؤلاء الإرهابيين لمغادرة الأرض السورية والعودة من حيث أتوا عبر الطرق التي سلكوها، بحيث تستعيد كل جهة حصتها منهم كما حدث في الأشهر الماضية مع بعض فلول تنظيم داعش المنهزمة في البادية السورية وبعض المناطق الأخرى، وليس من الإنصاف أو العدالة الدولية أو القانون الدولي في شيء إبقاء محافظة سورية مثل إدلب أشبه بإمارة إرهابية قاعدية توزع شرورها وإرهابها في كل الاتجاهات حيث أريقت الكثير من دماء المدنيين الأبرياء في السنوات الماضية نتيجة الدعم والتواطؤ الدولي مع هذه الجماعات التكفيرية المجرمة الخارجة على القانون الدولي والمصنفة لدى معظم الأطراف الدولية على لوائح الارهاب.
لقد أوفت سورية بكل التزاماتها القانونية وبكل تعهداتها بخصوص مسار آستنة وسوتشي وأبدت شديد حرصها على إنجاح كل مسعى للاستقرار والسلام ووقف الحرب بدليل أن حسم الوضع الشاذ في إدلب قد تم تأجيله مرات ومرات كي تتاح الفرصة لمعالجته بعيداً عن قرقعة السلاح والسيناريوهات التصعيدية المختلفة، وقد آن للنظام التركي أن يستغل الفرصة الممنوحة له من قبل روسيا وإيران قبل أن يفوت الأوان ويصبح العمل العسكري الشامل في إدلب ضرورة لا بديل عنها.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 9-5-2019
الرقم: 16973