عادت منطقة الشرق الأوسط مجدداً إلى دائرة التصعيد والتوتر وهذه المرّة من بوابة البرنامج النووي الإيراني، وذلك نتيجة إصرار واشنطن إسقاط الاتفاق النووي الموقّع بين إيران ومجموعة 5+1 عام 2015، حيث لم تكتف إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق المذكور العام الماضي، تنفيذاً لوعود انتخابية قطعها ترامب خلال حملته الانتخابية لإرضاء اللوبي الصهيوني في أميركا، وإنما واصلت بتشجيع من الكيان الصهيوني وتواطؤ بعض الأنظمة الخليجية الدائرة في الفلك الأميركي ضغطها على إيران لإلزامها بإعادة التفاوض حول نفس الملف بعناوين جديدة تتعلق بدور ونفوذ إيران في المنطقة وهو ما رفضته الأخيرة بشدة لكون الاتفاق يقتصر على الشق النووي ومسائل الحد من القدرة على تخصيب عالٍ لليورانيوم مقابل إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران.
فمنذ تشرين الثاني الماضي بدأت الإدارة الأميركية بتنفيذ تهديداتها ضد إيران بسلسلة من العقوبات الاقتصادية المتدرجة القسوة والأذى بلغت أوجها في الأيام الماضية بمحاولات تستبطن تهديدات عالية النبرة بتصفير توريدات النفط الإيرانية إلى الأسواق العالمية، الأمر الذي أعاد قرع طبول الحرب في الخليج وأنذر بمواجهة عسكرية بين الطرفين، بالنظر للمخاطر الكبيرة المترتبة على هذا القرار ومن ضمنها تجويع الشعب الإيراني عبر ضرب وإضعاف اقتصاده حيث تشكّل إيرادات النفط أهم الروافد الحيوية والفعّالة للاقتصاد الإيراني.
منذ مجيء ترامب إلى الإدارة قبل أكثر من عامين أعلن عن قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، فجاء الرد الإيراني بالتمسك بالاتفاق طالما تمسّكت به بقية الدول الموقعة شرط أن يتم الالتزام برفع العقوبات الاقتصادية، في حين لوّح الرئيس الإيراني حسن روحاني بالخروج منه مع إمكانية العودة إلى تخصيب اليورانيوم باعتباره حقاً لإيران تكفله الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنه في الوقت نفسه أكد أن الولايات المتحدة لم ولن تلتزم بما تعهدت به على الإطلاق، مشيراً إلى أن الاتفاق لم يكن مجرد اتفاق ثنائي بين بلدين، بل كان اتفاقاً دوليّاً رعته الأمم المتحدة وصدر بقرار من مجلس الأمن، وهو ما يؤكد أن إيران باقية في الاتفاق لحين استكشاف إمكانية بقاء مكاسبه الاقتصادية دون وجود الولايات المتحدة ضمنه، وهذا ما أكده أيضاً وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أكثر من مناسبة، حيث أوضح إن بلاده ستحدّد موقفها النهائي من البقاء في الاتفاق من عدمه بعد التأكد من التزام الدول الأوروبية الموقعة عليه وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، في تأكيد على التزامها في الاتفاق طالما استطاع الأعضاء الآخرون الموقّعون عليه ضمان مصالح بلاده الاقتصادية، وتعزز ذلك مع تصريح قائد الثورة الإيرانية علي خامنئي بأنه من غير المنطقي استمرار الاتفاق مع بقية الدول دون ضمانات كافية.
ولكن على ما يبدو أن الرهان على صلابة الموقف الأوروبي لم يكن صائباً حيث لم تستطع الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق الصمود أمام الضغوط الأميركية إذ أقدمت العديد من الشركات الأوروبية الكبيرة على الانسحاب من السوق الإيرانية بفعل نظام العقوبات الذي طبقته واشنطن على هذه الشركات ما أفقد إيران الكثير من المكاسب الاقتصادية التي تحققت بعد الاتفاق، فاضطرت للاستعانة بشركات صينية وروسية من أجل إصلاح الخلل، إلا أن الموقف الأوروبي الهزيل ما زال يدور في الفلك الأميركي ويصعب التعويل عليه لإنقاذ الاتفاق وهذا ما توصلت إليه إيران في الأيام الأخيرة ودفعها لإعلان انسحابها من عدة التزامات أساسية في الاتفاق، وذلك بعد عام من انسحاب الولايات المتحدة منه.
وفي هذا السياق قال الرئيس روحاني، إن بلاده ستواصل تخصيب مخزونها من اليوارنيوم في الداخل، بدلاً من بيعه إلى الخارج، كما هدد أيضاً باستئناف إنتاج يورانيوم عالي التخصيب خلال 60 يوماً، كما أكد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إن بلاده تتصرف ضمن صلاحياتها طبقاً للاتفاق، وأضاف أن الأمر الآن متروك للقوى الأوروبية للتصرف.
وجاءت هذه الخطوة الإيرانية عقب إصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل يومين مرسوماً تنفيذياً يفرض بموجبه عقوبات جديدة على إيران تستهدف قطاعات الحديد والصلب والألمنيوم والنحاس، وهي حزمة جديدة من العقوبات أعقبت قرار الإدارة الأميركية بتصنيف الحرس الثوري الإيراني «كمنظمة إرهابية».
وقال ترامب إن العقوبات الجديدة تهدف إلى حرمان إيران من عائداتها من تصدير المعادن، والتي يمكن أن تستخدمها طهران لتمويل برنامجها النووي حسب زعمه، كما ويسمح المرسوم الأميركي بتطبيق هذه الإجراءات على مؤسسات مالية أجنبية تتعامل مع قطاع المعادن الإيراني.
وتأتي هذه التطورات في ظل التوتر المتصاعد بين البلدين على خلفية ملفات عديدة وإرسال الولايات المتحدة حاملة طائرات جديدة إلى منطقة الخليج هي «أبراهام لينكولن» بذريعة مواجهة أي تهديدات إيرانية تمس «المصالح الأميركية» في الخليج، في إشارة إلى تهديد إيران بإغلاق مضيق هرمز في حال أقدمت واشنطن على منعها من تصدير نفطها الخام الأمر الذي تعتبره خطاً أحمراً.
نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قال في تصريح له الأربعاء الماضي «لقد طرحنا على الأجندة الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة، وسيجري الخروج منها على مراحل».
كما أوضح المسؤول الإيراني: «أنه لا يمكن لأي دولة أن تتهم إيران بالخروج من الاتفاق النووي أو نقضه لأن جميع إجراءات إيران في هذا الصدد، هي من ضمن بنود الاتفاق»، معتبراً «أن إعادة قرارات مجلس الأمن ضد إيران، هي خط أحمر، وإذا ما قاموا بذلك فإن الاتفاق النووي يعتبر منتهياً».
وفي أول تعليق أميركي على الخطوة الإيرانية، قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو «إن إيران تعمدت الغموض» في قرارها مشيراً إلى أن الولايات المتحدة ستقرّر الإجراء الذي يتعيّن اتخاذه بمجرد أن يصبح الموقف أكثر وضوحاً.
وفي المواقف الأوروبية الصادرة حديثاً نُقل عن وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي قولها «إن القوى الأوروبية تبذل ما في وسعها للإبقاء على الاتفاق حياً، ولكن ربما يكون هناك عواقب، وعقوبات محتملة إن لم يُلتزم بالاتفاق».
في حين لم تصدر حتى الآن أي ردود فعل من قبل الصين وروسيا إلا أنهما تلقيان باللوم على واشنطن لأنها المنسحبة من الاتفاق.
من المؤكد أن ترامب بإصراره على المضي قدماً بعقوباته على إيران مستغلاً ضعف الموقف الأوروبي وخضوعه للمشيئة الأميركية يريد دفع الأمور مجدداً إلى حافة الهاوية وإفشال أي جهد سياسي في هذا الإطار بعد أن استغرقت المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى لانجاز الاتفاق النووي ثلاثة عشر عاما ما اعتبر في وقته إنجازاً تاريخياً، وهي محاولة من إدارة جديدة من إدارة ترامب لتخريب الاستقرار الهش الذي تشهده المنطقة منذ توقيع الاتفاق تمهيداً لتمرير بعض الصفقات المشبوهة حيث يرجح البعض أن تكون صفقة القرن بخصوص تصفية القضية الفلسطينية إحداها، وفي جميع الأحوال لا أحد يمكنه التكهن بماهية التطورات القادمة التي قد تنجم عن التصعيد الجاري، إلا أن القراءة الأولية للسلوك الأميركي العدائي تجاه إيران والرد الإيراني الحازم عليها تضع المنطقة أمام اختبار صعب وسيناريوهات مفتوحة على احتمالات مختلفة ليس السيناريو العسكري أقلها مع صعوبة توقع تداعياته الكارثية وقدرة كل طرف على تحمل هذه التداعيات، وإذا كانت واشنطن تصعّد وتصب الزيت على النار للحصول على بعض المكاسب السياسية لها ولحليفتها إسرائيل فإن المسألة بالنسبة لإيران هي مسألة سيادة واستقلال حيث لا يمكن الخضوع أو الاستسلام لأن من شأن ذلك تهديد دورها ووجودها ومستقبلها وكذلك مصالح شعبها الاستراتيجية والحيوية.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 10-5-2019
الرقم: 16974