رمضان يغيب ثم يأتي من جديد.. وهو يحمل معه في كل عودة أنفاساً جديدة.. ورحمات يستجلبها من السماء لتهطل على الناس خيراً، ونماءً.. وإذ هو يستمع إلى أنين الشكوى التي تنبعث من الأرواح المتعبة يتساءل: لماذا؟.. ويسأل عن حصادنا خلال عام، ومنذ أن ارتحل عنا إلى أن عاد إلينا.
وإذا كانت أيامه، ولياليه كلها تفيض بالرحمة، والغفران، والعبادة الخالصة لوجه الله فلماذا إذاً ينسى العباد تلك الأمداء فيظلم بعضهم بعضاً، ويقوم بينهم الخلاف والاختلاف، وليصبح على ضفتي الأيام مَنْ هو ظالم، ومَنْ هو مظلوم؟.. بينما الشهر الفضيل يدعو إلى الرأفة، والمودة، والتسامح.. ونور الفجر فيه ينسج مع كل يوم حسنات تذهب بالسيئات.
والأديان كلها في أساسها لم تأتِ إلى البشر إلا لتنظم العلاقات فيما بينهم، لكن الناس ما زالوا يتصارعون.. وهي أيضاً لم تأتِ إلا لتجعل نهر الحياة يتدفق دون أحجار تسد مجراه، ولا أكدار تعكر صفوه.. لكن الناس ما عادوا يتذكرون هذا في العادي من أيامهم، وما عادوا يراعون تعاليم السماء في تعاملاتهم اليومية لا مع الأقرباء، ولا مع الغرباء.. ورمضان ينتظر الجواب على سؤال ما كان ليأتي به لو أنه يعلم أن العدل، والتسامح هما السائدان.
أما الإنسان الذي يربح العالم مقابل أن يخسر نفسه فالسيد (المسيح) يسأله: ماذا ينفعه ما ربحه لقاء ما خسره؟.. ولو راجع الناس أنفسهم بين عام وعام.. بين رمضان ورمضان.. لكانت الصورة أوضح، والممارسة أقوم، والانسجام مع الذات أصدق، وأعمق.
رمضان في أولى أيامه يقف بباب السماء يسأل عما أودعه فينا في عام فائت.. فهل كنا أمناء عليه، وعلى قيم الحق، والخير التي كان يدعونا اليها على مدار أيامه ليجد القلب فيها سعادته، والضمير منها راحته؟.
إنها المعادلة الصعبة إذاً تلك التي تتحقق في الصوم، وتقع بين عبادة الخالق، وحسن التعامل مع الخلق.. بين التقرب من الله، والتقرب بالحسنى من العباد.. إذ ما الجدوى من أن تحلق بجناحي طائر إذا كنت ستسقط بعد أن حلقت لتنكسر منك الأحلام مع خسران الغفران؟.. وهو في الوقت ذاته التدريب لترويض النفس.. التدريب لمقاومة الجوع، والعطش تماماً كما هو التدريب للارتقاء بالسلوك الذي تعبر عنه الأخلاق، وتضبطه.
والصوم.. ما الصوم؟.. ما هو إلا عبادة اشتملت عليها كل الأديان، ولو اختلفت في تفاصيلها إلا أنها اتفقت في جوهرها.. فالصوم صوم وإن تباينت منه الأشكال، والمواقيت.. وهو الامتناع عن المباح من أجل حسن الامتناع عن المحظورات، وما اتفقت على تحريمه الديانات.
وإذا كانت الآية الكريمة في متنها تقول: ((وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا))، فإن الامتثال لتعاليم الله، والإذعان في طاعته يجعل من تعارف البشر، وتآلفهم بين بعضهم بعضاً أمراً أكيداً لا عصياً.. وغاية بحد ذاتها يتقرب العبد من خلالها إلى ربه.. فينفعه صومه، ولا يضيع هدراً ما أنفقه من صبر، واحتمال على مدى شهر ما نقص من فضائله في يوم شيء، بل زاده الله في الأجر في ليلة هي القدر، وخير من ألف شهر.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 10-5-2019
الرقم: 16974