في حـديث الصبر والعبرة.. المقدم البطل الجريح فراس شيحة:الحياة لا تتوقف عند اعاقة جسدية بوجود الارادة
لا تأبه للتعب عندما تكون في حضرة الأبطال فأنت شخص محظوظ حين تستضيفك لحظات من الزمن بدافع صدفة نبيلة تبحث عنها ولا تعرف فيها من تلتقي ،ليكون الجرح النازف بردا وسلاما على قلبك وروحك،تكتسب من تجارب مرة موجعة دروسا في الحياة تعرف كيف تتكيف مع ظروف حياة طارئة جعلتها تتكيف معك،لا أن تتكيف معها.
كانت اللهفة عارمة ونحن نعبر شوارع العاصمة قاصدين معهد التأهيل المهني لرعاية المعوقين فالواجب الصحفي متأهب بنكهة خاصة طالما اللقاء سيكون مع أبطال من قامات الجيش العربي السوري..ستون نجما زينوا فضاء العاصمة دمشق ليغدو الياسمين أكثر بهاء وسحرا برائحة أهل الوفاء.
في هذه السطور تحتار من أين تبدأ مع البطل الجريح المقدم فراس شيحة من أسرة أبطال تحت الركام، فأبواب النفس مفتوحة على مساحات من الأمل والعمل والتفوق والفوز بلقب الشجاعة على جميع المستويات.
في نبرات صوته الهادئة وتقاسيم وجهه السمحة،يشرح بتفصيل دقيق كيف تعرض شيحة لإصابة حربية في رجليه نتيجة الأعمال القتالية في إدلب تاريخ ١٦/٢/٢٠١٢ ما أدى لبتر إحداها من الفخذ بقي على إثرها عاما ونصف العام يعالج بالمشفى ،تسعة أشهر منها ملازما سريره ،وليقضي منها أربعة أشهر ونصف على بطنه دون حركة ..كان يحلم أن يقلب على جنبه أو يحرك ولو قليلا أو يقف على عكاز ويحرك ظهره دون وجع ..دخل غرفة العمليات ٤٥ مرة ،حمل رجله شبه المبتورة بيديه.
قضاء وقدر
في حديث الصبر والعبرة يقول البطل شيحة :جوهر الحياة انها مستمرة والإصابة هي قضاء وقدر وقناعة وواجب وطني ،فالله عز وجل أعطاني الصبر والإرادة أكثر مما استحق وهذه النعمة أردت أن أعكسها على نفسي أولا وعلى رفاق السلاح ممن حالتهم تشبه حالتي ثانيا..وعن ظروف الاصابة يشير البطل شيحة الذي كان يخدم بالفرقة الأولى (مزارع الكسوة)انه كلف بمهمة في إدلب وفي الطريق إلى قرية مراح تعرض ورفاقه إلى اشتباك تمكن من تجاوزها،ليخوض معركة أكثر شراسة وقسوة في معمل القرميد بمنطقة سراقب .
كان يقود سيارة كبيرة حين أصيب السائق ولم يتمكن من إكمال قيادة السيارة حيث قاد السيارة بنفسه رغم إصابته بيديه وكان فيها عدد من الجنود ،قطع مسافة طويلة من سراقب إلى جسر اللاذقية غير آبه لرصد وملاحقة الإرهابيين ليتمكن من إسعاف نفسه ومن معه،وحين كان النزيف حادا حمل رجله التي كانت معلقة بشكل جزئي من جسمه ولم يتركها في وقت كان شعور مغادرة الحياة مسافة شعرة كما يقال.. لكن الإيمان بالله والتمسك بالحياة جعله يتمالك نفسه ،ويعود لقيادة السيارة مرة اخرى باتجاه مشفى ميداني ولم يكن يرى من الطريق إلا السماء،فكر في داخله في حال تم أسره أو وقع في أيدي الارهابيين لطالما لا يملك سلاحا أن يفجر نفسه بهم بقنبلتين كانتا بحوزته .
زار شيحة مشفى ميدانياً في المسطومة،ومن ثم تابع العلاج في حلب ليرى رحلة عذاب بالألوان نتيجة الانتانات وظروف العلاج الصعبة ،وفي مشفى حرستا بقى ثمانية أشهر(علاج ترميم) لكن النتيجة النهائية أنه لابد من البتر..وهنا يقول المقدم البطل:قرار البتر اتخذته بنفسي حيث مرحلة العلاج كانت لتثبيت الركبة والقدم لكن ستبقى الركبة ثابتة،وحين شرح لي الطبيب مزايا الطرف الصناعي في الحركة،قررت البتر في الشهر الذي ولدت فيه،١١/١١/١٩٧٦ ليكون البتر في ٩/١١…
ولادة جديدة
هي ولادة جديدة لحياة جديدة وهذه الإعاقة تشبه اي إعاقة أخرىكما يصفها بطلنا ،مضيفا أنه ممكن ان يعيق المرء حفرة يقع فيها شخص ما،وآخر لم يحالفه الحظ في العثور على وظيفة ،فالحياة لا تتوقف عند إعاقة جسدية بسيطة طالما هنالك إرادة حاضرة،انها نقطة تحول حقيقية باتجاهات مختلفة ، وبقدر ما يستطيع الإنسان التأقلم مع وضعه المستجد بقدر ما ينتج ، وبرأيه أن أي اعاقة يتعرض لها أي شخص يتجاوزها فهي ليست إعاقة ..ويتابع البطل حديثه،مؤكدا أنه عندما يؤدي المرء واجبه قناعة وحبا لأرضه وعرضه وشرفه ولديه إيمان مقدس بالله والوطن فهذا واجب عليه تأديته على أكمل وجه ،وأي إعانة أكانت مادية او نفسية ستنتهي بعد حين،لذلك أعين نفسي وأعطي من حولي الطاقة الايجابية،ويتابع قوله ، كنت في السرير أتألم وأتوجع ولم أشعر أهلي أنني أتألم حتى يغادرون المنزل لبعض الوقت،فقد كانت تمر الثانية كأنها سنين،هذه التجربة من الألم تغلبت عليها بالإرادة للتخلص من كل نظرات الشفقة من القريب والبعيد.
تقبلته بإرادتي
وحول تقبله للطرف الصناعي أوضح شيحة أنه في الوقت الذي أخذه بعض الجرحى ووضعوه في المنزل دون ان يتأقلمون معه،كان يلبسه هو طوال الوقت رغم بعض الألم فهو أراد أن يتأقلم الطرف معه وليس العكس متمنيا من كل رفاق السلاح الجرحى ممن بترت بعض أطرافهم أن الجلوس بالسرير ليس بإرادة احد منا لذلك يجب أن تكون احدى عيوننا على النفس وأخرى على الأهل الأسرة والأولاد لان من يرافق المريض هو المريض.
معنى الرياضات الخاصة
أما في الجانب الرياضي فان للتحدى قصصا اخرى اكثر تشويقا في نفوس أبطالنا الشجعان فكيف طرقو باب الرياضات الخاصة.. يوضح البطل شيحة أنه بعد رحلة علاج عام ونصف بالمشفى جاء إلى معهد التأهيل المهني بدعوة إلى مؤتمر الأطراف حيث تعرف على الدكتور هادي مشهدية مدير المعهد طالبا منه إجراء التدريب في هذه الصالة ومن خلالها تعرف على الكابتن أحمد عطايا مدرب الرياضات الخاصة ،وقبلها لم يكن يعرف معنى الرياضات الخاصة كما يشير البطل شيحة ،وبعد أن ركب طرفا صناعيا اول مرة في قطاع خاص قام بتعديل الطرف في مشفى حاميش ،ولأنه يحب الرياضة ويمارسها بشغف منذ زمن وقبل الإصابة فقد لعب أول مرة ريشة على الكراسي المتحركة التي لم يكن استخدمها من قبل. حقق شيحة المركز الأول في بطولة الطائرة بطرطوس والمركز الأول في السويداء عام ٢٠١٨
كما شارك بأول بطولة الريشة بصالة الباسل في طرطوس عام ٢٠١٧ محققا فيها المركز الثاني وكانت أول مشاركة له.وفي عام ٢٠١٨ دخل المشفى وأجرى عمل جراحي(التهاب عظم)،وبعد هذا العمل شارك ببطولة في طرطوس عام ٢٠١٨ محققا فيها المركز الاول ببطولة الجمهورية بالريشة “كراسي متحركة”تصنيف ٢.
وفي تاريخ ٤/٤ للعام الحالي كان هناك بطولة حقق فيها شيحة مرتبة بطل الجمهورية .ولعب أيضا لعبتا تمايز لتأهيل لاعب منتخب سورية يمثل بمعسكر خارجي ولاعب دولي كان الأول فيها لكن بسبب الفيزا وبعض الإشكالات لم يتمكن من الذهاب للمشاركة فيها.
لعب البطل شيحة العاب قوى بدنية ورفع أثقال بملعب تنشرين عام ٢٠١٧ بطل جمهورية لوزن ٩٧.وعلى صعيد كرة الطائرة شارك على مدى سنتين متتاليتين ٢٠١٧-٢٠١٨ بمنتخب دمشق حصل خلالها على كأس الجمهورية الأول ،وحقق المركز الثاني ببطولة السباحة في اللاذقية نظرا لعدم وجود التدريب الكافي .
فكرة الفريق
وعن فكرة الفريق يلفت البطل شيحة في حديثه ان الفكرة كانت للكابتن أحمد عطايا وشادي العلي المدرب بالصالة الرياضية فعندما يأتي ورفاقه إلى هذه الصالة لم يكن هناك كثير من الجرحى وبفضل جهود وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل التي تقبلت ملاحظاتنا
حين زارت الصالة بأنها لا تحتوي على ما يتناسب مع الإصابات ،وخلال شهر كانت التجهيزات مؤمنة عن طريق احدى الجمعيات الخيرية وأصبح البناء كاملا لهذه الشريحة (منتدى،صالة كبيرة،مكتب ،مطبخ)،حيث تم تخصيص يومي الاثنين والخميس كل اسبوع لتدريب جرحى الجيش العربي السوري،إضافة لتدريب طلاب التأهيل المهني إلى جانب تلقي الدروس.والصالة حاليا تستثمر و يستقطب فيها كل جرحى الحرب من عسكريين ومدنيين،ذكورا وإناثا فقد حقق الكثير ممن تدرب في الصالة على انجازات وبطولات رياضية .
الرياضة تفرغ الطاقة السلبية حسب تأكيد بطلنا “فكما كانو في ساحات القتال أبطال فهم أبطال ايضا في ساحات وميادين الرياضة .فهو يشعر بالرياضة كحالة سياسية وطنية أمر مهم جدا،فالعلم العربي السوري يرفع أثناء الزيارات الرسمية لسيد الوطن وللاعب الرياضي حين يفوز بأي نشاط رياضي،على المستوى الوطني والدولي لذلك ليس أجمل من أن يرفرف العلم العربي السوري في اي مجال للنصر وعلى جميع المستويات.
يصف البطل شيحة نفسه بالرجل الطموح جدا،الساعي للنجاح،الحريص على احراز المركز الأول في البطولات العربية والعالمية .
عبارات كثيرة ذكرها بطلنا مازالت ترن على مسمعي كعقارب الساعة في هداة الليل لطالما اعتبر أن الإعاقة ليست في الجسد فقط الذي يتعافى ويتمثل للشفاء بعد علاج طويل او قصير. لكن الإعاقة الأصعب تلك المتمثلة في الاخلاق حين لا يكون اسلوب المعاملة على قدر من الاحترام والتقدير ،أو أن يكون اسلوب العلاقات الاجتماعية يخضع المزاج والمصلحة الشخصية والأنانية المفرطة فقبل الإصابة كان الزملاء والأصحاب والأصدقاء ما أكثرهم وبعد الإصابة ربما يصبحون بعدد أصابع اليد .وما يحز بنفس بطلنا الجريح ما تعرض له من إعاقة اجتماعية أثناء وجوده في المشفى حين تخلت عنه زوجته الأولى و حرمته من أولاده حين تركت المنزل ..لكنه لم يستسلم لليأس طالما قهر الألم بالصبر والحكمة والإرادة.
فقدره أن يتزوج مرة ثانية من امرأة صالحة احبته بإخلاص وأحبها بوفاء ليكملا معا حياة من نوع آخر في تحمل الأعباء والمسؤوليات العائلية والأسرية حيث فرحته تكتمل مع ابنه جعفر المتفوق في الصف التاسع ومع ابنتيه لمى صف رابع ،ومريم ثلاث سنوات.
ينجز ابا جعفر أعماله بيديه سواء في المنزل أو في عمله الإداري حيث مازال على رأس عمله.
أخيرا يمكن القول أن إيجابيات معهد التأهيل المهني ليست في الجانب الرياضي فقط وإنما عكس تجربة أسرة أبطال من تحت الركام الذي أضاء على كثير من جوانب النفوس الفاعلة الأبية نحو الحياة الكريمة بمعجزات مختلفة حيث شكل كل من الكابتن احمد عطايا ، المقدم فراس شيحة ، شادي علي،هيفاء منصور، عامر سمون،الملازم أول عيسى حسن، محمد صادق،مهران محمود جريح جديد وغيرهم ، شكّلا جميعا نواة حقيقية لمشروع إنساني وطني بعيون أبطال نفتخر بقاماتهم جميعا وهم يمثلون الآلاف ممن ضحوا بأجسادهم وأرواحهم فداء للأرض والعرض والتراب المقدس.
غصون سليمان
التاريخ: الأحد 12-5-2019
الرقم: 16975