– شاعرٌ اعتلَّ من أوبئةِ زمانه، فأبتْ زفراتُ قصيدته إلا أن تجول العالم بأنفاسها المشتعلة والصارخة أبداً: «لا شيء في مكانه».. أبتْ أيضاً، إلا أن تتماهى في فضائه الجريح، فيراقصها «رقصة الطائر الذبيح».. تصحو مع أرقه، وبعين عشقه.. لكن «العاشق لا من ينجده»، وقصيدته تتَّقد، فمن يُخمدها ويُنجده؟.
— لا أحد ينقذها، فمن ينقذ من أراد الموت فيها؟.. أعتقد أنّ هذه الصرخات كلّها من أجل صيد «القصيدة»، فلا شيء يرغب فيه «العاشق/ الشاعر» إلاّ موضوع جديدٍ، شيّق وقادر على احتواء المحبَّة.
من لم يحبّ، لا قدرة له على فهم ما أقول. أحدسُ أنّ القصيدة هي غاية الشاعر الحقيقي الموهوب الفذّ. ذاك الذي يقال عنه «سارق النار»، والأكيد أنّ الجمهور الواسع هو المستهدف من الكتابة، فهو من يحترق بنار القصيدة، إن كانت صادقة وطافحة بالشوق والوجع، أو إن كان من يقف خلفها شاعرٌ فحل..
هكذا بدأنا حوارنا مع الشاعر التونسي «محمد هادي الجزيري». الشاعر التونسي الذي لابدَّ لنا من التعريفِ به وبأعمالهِ، وعبر سؤاله:
– «أنا الفوضى.. أنا حشدٌ من العشاق.. أنا الطيف.. أنا الضيف.. أنا المغنّي.. أنا الشيخُ الضرير. أنا بائع الورد الحزين.. أنا الغريب وابن السبيل. هذا أنت في قصيدتك، فمن أنت من دونها، ومن هي فيك؟.
— أنا ما قلته.. أنا آلاف وملايين العشاق الذين مرّوا، ولعلّهم من ماتَ على ظمأ وجوع لوجه من يحبّ. أحاول أن أكون «هم» وأنجح أحياناً، وأفشل مرات أخرى. أنا من ذكرتهم بالاسمِ وأشرت إليهم.. أشعر دائما أنني أكبر وأوسع وأكثر من واحدٍ، فثمَّة من أمثِّلهم سبقوني إلى هذه الحياة، وثمَّة من سيمثلونني بعد غيابي. هذا قدري كشاعرٍ وعاشقٍ وحرٍّ، أمّا الشخص الآخر فهو الزوج والأب وغيره من الصفات الأخرى.
هذا أنا، أما القصيدة فغصّة دائمة فيَّ، وستظلّ ترافقني إلى النهاية، وأشعرها وبعد كلّ كتابة مجنونة. لقد تخلّصتُ منها، لكنّها تبقى جامدة بعض الوقت، وتصرخ في القلب والروح والجسد: «أنا هنا، مازلتُ فيك». أبدأ بالبحث عن شفاء لها، ولعلَّ شفاءها بالموت، لتنتقل إلى شبيهٍ لي، وهكذا دواليك.
– «مجدُ الشاعر أن تكتب عنه الوردة، ويصيرُ قصيدتها المرتدَّة».. هو قولك وأسألك: أين مجد الشاعرِ ومجدُ قصيدته، في زمنِ الردَّة هذا؟..
—أن تقول: لا، هو الردّ الشافي والكافي، في زمن الخيانات جميعها.. ذاك مجد الشاعر المؤمن باتجاهه، والمحافظ على مبادئه وأخلاقه في زمنٍ لا يشرفني أن أكون منه، فهو أوسخ وأكثر مهزلة ممّا يظنّ السامع.. زمنٌ، تقاد فيه السيدات إلى سوق النخاسة، ويقاد الرجال الكرام كالأنعام إلى الذبحِ تحت نظر العالم. أحياناً أقول لسكّان هذه الأرض: «خائنٌ من لم يجنّ» حين لا يقدر أن يفعل أيّ شيءٍ، أمام ما يراه من مجازرٍ ومظالمٍ وأهوالٍ يشيب لها الصغار. المجد للشاعرِ، وأيضاً للمواطن الذي ظلَّ إنساناً طافحاً بالحبِّ والكرم، وواقفاً في وجه المفسدين الأبالسة.
– في «لاشيء في مكانه»: تحيا الحلبة/ يحيا الشيخُ منظّم مذبحة الكتَّاب على أيدي الكَتَبة/ يحيا الجمهور بكلِّ شرائحهِ المسعورة/ والمأجورة والمخمورة والمذعورة/ والمحظورة والمقبورة والمغتصبة/. عما تحكي في هذه القصيدة؟.
— هذه القصيدة، تحكي عن الصراع الذي شنَّ في اتحاد الكتاب التونسيين، ضدّ المرحوم الراحل «الميداني بن صالح». لقد استطاعت هذه القصيدة أن تفوز عليهم، وهذا الحوار يؤكد أنها استطاعت أن تقفز فوق الكلاب المأجورة والمخمورة والمقبورة وأن تبقى، رغم أنها قصيدة «تاريخية» تروي الأحداث التي وقعت في الاتحاد، وخلاصة ما أريد قوله: سيمضي كلّ شيءٍ ولا يبقى إلاّ النصّ الصادق الجامح.
– تقول في «أرتميدا»: لستِ وهماً/ أنتِ معجزتي الفريدة فتوهَّجي/ ياربَّة الصَّيدِ القديمة في ملامحكَ الجديدة/. ما الملامح الجديدة لربّة الصيد هذه؟.
— هي أنثى الكلام، فمن لا يؤنّث لا يعوّل عليه. لقد كتبتُ كثيراً عنها، فهي غايتي القصوى وهي مرادي. أحلم بكتابتها ثمّ أرحل. نعم أرحل ممتنَّاً ومرتاحاً إذ تمكَّنت من تطويع الكلام إلى أنوثته، ويكفيني أنّي قلتها في البدايات أيّ قبل ثلاثين سنة، وفيها قلت: «أيّها الناسُ/ راودني ملك الموتِ أكثر من مرّةٍ واشتهاني/ وما فكَّني من يديهِ سوى أنّ لي ما أقولْ/ لكأنّي على موعدٍ معها/ تلك مَنْ وجهها فرصة للجنونْ/ تلك مَنْ شعرها لا يظلّل إلاّ رسولْ/ تلك مَنْ حاجباها يكادان ينتفضان ويلتحقان/ بسرب الطيورْ/.
– تقول أيضاً: «ما جدوى إهداري لدمي/ في رسمِ الموتِ للموتى/ ماجدوى تبذيري لحياتي/ في بيتِ اللغة المهجور/ وبيوتُ الدهشةِ شتى؟!. متى تصيرُ القصائد بيوتاً لا مدافن للحياةِ؟.
— عندما يكفّ الناس عن الشيطنة ويحبّوا بعضهم البعض.. سنظلّ ندعو العالم إلى عالمنا، فقد تعبنا وآن للبشرِ أن يفرحوا وأن يتعانقوا حبّاً وأخوَّة. إنه ما يحوِّل القصائد إلى بيوتٍ للحبٍّ والدهشة.. نرجو ذلك.
– آلمكَ ماحصلَ لكلِّ الأوطان العربية ومنها «سورية». ماذا تقول لها، ولكلِّ من أغمدوا سيوف أحقادهم وظلامهم وإجرامهم، في قلبها؟..
— لسورية القلب أعتذر، وأرجو أن تغفر لي جرائم بعض المسوخ التونسية. أولئك الذين أوغلوا في دماءِ الأبطال، ودنّسوا أواصر القربى. إنّه من المستحيل أو من الصعب جدّاً أن تسامحني سورية، لكنني أرجو ذلك، لأنّ الكارثة والمصيبة كانت بأيد تونسية لم تستح من فعلها..
قد يشفع لي ولملايين التونسيين، صياحهم وصراخهم في وجوه من سفّروا شبابنا ليسفكوا دماً، نقيّاً وبريئاً من كلّ ذنب، وإنّه آتٍ اليوم الذي تقع فيه محاسبة الشيطان المسؤول عن كلّ ما حدث، لعلّ الوجدان التونسي عبّرت عنه قصيدتي «تفّاحة القفر» التي نشرتها في سورية، وقلت فيها: «طبعاً دمشقُ وهل في الأرض ساحرةٍ/ إلاّ دمشقُ تبثُّ النبضَ في الحطبِ/ هي المقيمةُ في صمتي وأوردتي/ وفي صهيلي إذا حمحمتُ من كُرَبي/ أحبُّ فيها جنوناً لا مثيل لهُ/ تحيا بـ»لا» وتصدُّ الرمل بالكتبِ/ خطيئتي هيَ منذ البدء، كنت أنا/ جدّي القديمَ وحتّى اليوم لم أتبِ/هل الهداية إلاّ أن أطوف بها/ مقبِّلا جرحها رغماً عن النُصبِ/.
– سأسألكَ أخيراً، ورغمِ قولكَ: «ليس لي ما أضيف سوى طعنة الانهيار الأخير»، هل هناك ما تضيفه؟.
— أنت تدرين أني أتعافى من محنتي التي طالت، فقد أصبت بجلطةٍ دماغية منذ أكثر من ثلاث سنوات، والحمد لله أنا أشفى تدريجياً، وأرجو أن تغفر سورية ما فعله الحمقى منّا، وأن أزورها حين أشفى تماماً.
هفاف ميهوب
التاريخ: الثلاثاء 28-5-2019
الرقم: 16988