الإرث المفقود

 

 

ثمة ما يشبه القناعة بغياب التصوير عن فنون الحضارة العربية الإسلامية، حيث يحصر الرأي العام هذه الفنون – غالباً- في العمارة، وتحديداً في عمارة المساجد، وفي الزخرفة والخط، وأحياناً في الفنون التطبيقية، مع أن التصوير قد دخل بشكل واسع في أطياف تلك الفنون جميعاً.
وفي واقع الحال لم يحظ فن التصوير في الإسلام باهتمام مناسب من قبل نقاد الفن ومؤرخيه يوازي ما لاقته العمارة والزخرفة والخط، وحتى الفنون التطبيقية، وقد يكون مرد الأمر إلى شيوع تصور غياب، أو ضعف هذا المجال من الإبداع الفني، في ظل كراهية تمثيل الأشكال الحية، والإنسانية على وجه الخصوص. حيث يماثل ضعف اهتمام المؤرخين الغربيين بالتصوير الإسلامي، ضعف اهتمام أقرانهم المسلمين، فإذا كان ضعف الاهتمام الغربي يستند في أحيان كثيرة إلى نظرة عنصرية فوقية تنكر أي إنجاز حضاري للشرق. فإن المؤرخين المسلمين بالمقابل لم يهتموا بتدوين أخبار المصورين، قدر اهتمامهم بتدوين أخبار نظرائهم من الشعراء والأدباء والعلماء والمفكرين، ويبدو أن المصورين أنفسهم تأثروا بموقف المجتمع منهم، فلم يبذلوا كثيراً من الجهد في تمييز أساليبهم، أو في طبع إنتاجهم بطابع ذاتي، ولم يضعوا أسماءهم على الصور التي رسموها، إلا فيما ندر.
يمكن رد ضعف الاهتمام إلى ندرة ما وصلنا من إبداعات الفن الإسلامي في التصوير إلى أن التصوير الإسلامي لم يأخذ الشكل المعروف للوحة الغربية (المنقولة أو المحمولة او المسندية). فالتصوير الإسلامي وإن كان قد بدأ على جدران الأبنية (قصور البادية) كم كان حال فنون العالم، فإنه تجلى أساساً في المنمنمات التي حفلت بها الكتب العلمية والأدبية، وقد تعرضت تلك إلى (مجازر) هائلة، حيث تتحدث الحكايات التاريخية عن عشرات آلاف الكتب والمخطوطات ضمتها مكتبة قلعة (ألموت) وأحرقها (هولاكو) في طريقه إلى بغداد، ويصل عددها في بعض الروايات إلى مليون مخطوط، ولا تنقص عن المئتي ألف في باقي الروايات، ويقال إن النار ظلت مشتعلة فيها لعشرة أيام كاملة، وفي بغداد ذاتها استكمل الغازي جرائمه بحق الحضارة الإنسانية، ولا تغيب عن الذاكرة ما حفلت به المصادر التاريخية عن عشرات آلاف الكتب التي قذف بها جند هولاكو إلى نهر دجلة حتى اصطبغ ماؤه بلون حبرها أياماً كثيرة، وإلى هذه وتلك يمكن الحديث عن آلاف المخطوطات التي تم الاستيلاء عليها من الشرق خلال حروب الإفرنج وأخفيت في أوربا، أو التي تم تهريبها إلى الغرب خلال القرون الماضية، أو انتقلت من الأندلس، بشكل أو آخر، ونقلت معها تقليد إلباس العالم عباءة لطالبه بعد إنجاز دراسته، وهو أساس التقليد المتبع اليوم في جامعات العالم.
تعود بدايات التصوير في الحضارة العربية الإسلامية إلى القرن الأول الهجري، وأقدم الرسومات الجدارية (الإفرسك) تلك التي اكتشفت على جدران قصر (عمرة) شرقي العاصمة الأردنية عمان والذي شيد ما بين 94 ـ 97هـ (712 ـ 715 م). وتضم هذه الرسوم الجدارية مشاهد الصيد والرياضة والاستحمام. وثمة لوحة أثارت اهتماماً واسعاً وآراء متباينة. وقدمت عنها تفسيرات مختلفة تمثل أميراً أموياً (يعتقد أنه الوليد بن عبد الملك) يحيط به الأباطرة البيزنطي والساساني والصيني، وملكا إسبانيا والحبشة. وقد ظلت مواضيع الصيد والرقص والموسيقا المواضيع المحببة في العصر العباسي، وتقدم مدينة سامراء على نهر دجلة نماذج مهمة لفن التصوير الجداري ذي الأسلوب المحلي مع بعض السمات الساساني، والذي نفذت به لوحات في (نيسابور) شرقي إيران، ومصر، و(بالرمو) عاصمة جزيرة صقلية، وأهم تلك اللوحات واحدة عثر عليها في قصر (الجوسق الخاقاني) في سامراء. وقد شاعت جداريات سامراء إلى حد الحديث عن أسلوب سامراء، وكانت آخر عهد الحضارة العربية الإسلامية بالتصوير على الجدران باستخدام الألوان.
كما سبق حلت الرسوم المنشورة في المخطوطات (المنمنمات) محل التصوير الجداري، وتمثل إحدى أميز الإبداعات الفنية للحضارة العربية الإسلامية، ويكون للمنمنمات دور توضيحي في الكتب العلمية، وهدف تزييني في الكتب الأدبية، وأكثرها شهرة منمنمات الواسطي التسع والتسعون التي زين بها في القرن الثالث عشر الميلادي نسخة فريدة الروعة من مقامات الحريري. ويرى الدكتور ثروت عكاشة أن التصوير العربي وصل إلى الذروة في المحاولات المختلفة والمتصلة التي ظهرت في منمنمات المقامات التي أنجزت في بغداد (مقامات الحريري)، وذلك بالرغم من أن نص الحريري نفسه لا يفسح مجالاً كبيراً أمام المصور. وظل القراء العرب على مدى قرون يعجبون بالتلميحات والتشبيهات البليغة والطباق والجناس والأحاجي التي تسبغ على هذه المغامرات الفكهة الصفات التي ميزتها في مجال الأدب. وطبيعي أن يتناسى المصور خلال معالجته لفنه هذه الصفات اللغوية الجذابة، وأن يقصر اهتمامه على المناسبات التي خلقها الكاتب من أجل عرض هذه الأقوال، ولأن المقامات الخمسين تدور في أماكن كثيرة ومختلفة فقد عني المصور بأن تكون منمنماته صوراً لتلك البيئات المختلفة، ويرى (جورج مارسيه) أن هذه المنمنمات ليس لها أصل أو فرع، ولئن تحول موضوع الصورة، سواء أكان مشهداً أم منشأة، ليصبح ظلاً مخططاً بصورة تحويرية، فإن الأشخاص ظلوا يُمثلون بصورة حية مع تذوق للحركة التعبيرية بصحبة نزعة فكاهية.
سبق ظهور رسوم الواسطي مخطوط للديوان الفارسي (اندارزنامه) مزين بمنمنمات ذات تأثير صيني، وبخلافه لم تكن ثمة منمنمات معروفة قبل القرن الثالث عشر ميلادي، وحين جاءت مقامات الحريري ومنمنمات الواسطي أطلقت ما عرف فيما بعد باسم مدرسة بغداد.
www.facebook.com/saad.alkassem

سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 4-6-2019
الرقم: 16993

آخر الأخبار
Al Jazeera: لماذا تهاجم إسرائيل سوريا؟ الأمم المتحدة تدعو للتضامن العالمي مع سوريا..واشنطن تقر بمعاناة السوريين... ماذا عن عقوباتها الظالمة... دراسة متكاملة لإعادة جبل قاسيون متنفساً لدمشق " الخوذ البيضاء" لـ "الثورة: نعمل على الحد من مخاطر الألغام ما بين إجراءات انتقامية ودعوات للتفاوض.. العالم يرد على سياسات ترامب التجارية "دمج الوزارات تحت مظلّة الطاقة".. خطوة نحو تكامل مؤسسي وتحسين جودة الخدمات بينها سوريا.. الإدارة الأميركية تستأنف أنشطة "الأغذية العالمي" لعدة دول The NewArab: إسرائيل تحرم مئات الأطفال من التعليم الشعير المستنبت خلال 9 أيام.. مشروع زراعي واعد يطلقه المهندس البكر في ريف إدلب برونزية لأليسار محمد في ألعاب القوى استجابة لمزارعي طرطوس.. خطّة سقاية صيفيّة إيكونوميست: إسرائيل تسعى لإضعاف وتقسيم سوريا المجاعة تتفاقم في غزة.. والأمم المتحدة ترفض آلية الاحتلال لتقديم المساعدات أردوغان يجدد دعم بلاده لسوريا بهدف إرساء الاستقرار فيها خطوة "الخارجية" بداية لمرحلة تعافي الدبلوماسية السورية  الشرع يترأس الاجتماع الأول للحكومة.. جولة أفق للأولويات والخطط المستقبلية تشليك: الرئيس الشرع سيزور تركيا في الـ11 الجاري ويشارك في منتدى أنطاليا بعد قرارات ترامب.. الجنيه المصري يتراجع إلى أدنى مستوياته الأمم المتحدة تحذر من انعدام الأمن الغذائي في سوريا.. وخبير لـ" الثورة": الكلام غير دقيق The Hill: إدارة ترامب منقسمة حول الوجود العسكري الروسي في سوريا