(يصل صوتك إلى المدى الذي تصل إليه مدافعك) هذه المقولة لثعلب الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر والإدارات الأميركية ما زالت تعمل بها حتى الآن، وقد استفادت منها في زمن العربدة، لكنها لم تعد تصلح لهذا الزمن الذي أصبحت فيه معظم الدول أيضاً تملك مدافع وأسلحة صالحة للاستخدام الميداني وليس التفاوضي كما هو الحال مع روسيا والصين وكوريا الشمالية وسورية ومعظم دول محور الممانعة المشاركة في صنع القرار الدولي ورسم الاستراتيجيات والخرائط الجيوسياسية، وأخيراً إيران التي يتمتع أهلها باستراتيجية الصبر وحياكة السجاد الذي يستغرق سنوات، وهم الآن تحت قيادة شديدة البأس وتمتلك من العقيدة القتالية ما مكنها طوال سنوات الحصار ليس فقط من الصمود بل من التطور في مختلف المجالات ما جعلها قوة لا يستهان بها.
وعندما عربد ترامب وهدد إيران ومن معها بمسحهم من الوجود لتنفيذ ما يسمى بـ (صفقة القرن) باعتبارهم العائق الوحيد لهذه الصفقة ألغى الاتفاقية النووية التي كانت أصلاً تقيد إيران وتقنن تخصيب اليورانيوم والماء الثقيل، وحاول مع عربانه شيطنة إيران وتحويل العداء العربي لإسرائيل إلى إيران بحيث صوروها أنها طامعة بالسيطرة على منطقة الخليج وهي منطقة المصالح الحيوية لأميركا، ثم أرسل أساطيله بإيعاز من صقور إدارته المأجورين للمشروع الإسرائيلي بتفتيت دول المنطقة وبسط النفوذ من الفرات إلى النيل وهو الحلم الصهيوني المعروف. ثم فرض رجل الأعمال ترامب عقوبات ليس لها أي تأثير على كل من يتعامل مع إيران بمن فيهم روسيا واليابان والصين التي بدأت حربها ضد الرسوم الجمركية باستخدام سندات الخزانة الأميركية التي تملك منها أكثر من ترليون دولار ما يهدد سيد العملات ومكانته في السلة العالمية.
ومع أن الصقور نصحوا ترامب المهرج بأن يحمل عصاً غليظة ويتحدث بنعومة الواثق من نفسه، لكن المقاول المستعجل الذي يريد أن ينتشل الاقتصاد الأميركي من التدهور بحلب أموال عربان النفط – ببيعهم السلاح بعيداً عن سلطة الكونغرس الذي سبق أن صوت ضد تسليح دول العدوان على اليمن، ما يشكل انتهاكاً خطيراً للقوانين الأميركية وستكون له تداعياته، وحمل هذا المهرج عصاه الغليظة وتحدث بخشونة مع إيران وحلفائها، ثم تذكّر أن عليه أن يخفف من لهجته فصرح أنه ليس بصدد تغيير النظام في إيران وأن كل همه أن يحد من سلاحها النووي، الأمر الذي أزعج إسرائيل وعربان الخليج فسارعوا إلى عقد قممهم الثلاث وأصدروا بيانات ملغومة تحت عنوان (إعلان مكة) تحذر من تمادي قوة إيران وخطرها على المنطقة، وكأنهم يطلبون من أميركا ألا تكتفي بالتفاوض مع إيران.
لقد كانت إيران في ذلك واضحة فهي لن ترفع سماعة الهاتف لتحدث مهووساً مثل ترامب وتعطيه دفعاً لتمديد ولايته في الوقت الذي تعمل فيه غرف الدولة العميقة لعزله، كما أن إيران تدرك أن الأمور ما زالت في بداياتها خصوصاً فيما يتعلق بصفقة القرن فالمشوار السياسي والميداني طويل ومتفرع، ففي سورية حيث بدأت ملامح معركة تحرير إدلب وما تبقى من جيوب إرهابية وستسقط مؤامرة القرن الكونية نهائياً، وفي لبنان حيث يصول ويجول ساترفيلد للقيام بما يسمى بترسيم الحدود البرية والبحرية وسيخرج خائباً لأن محور المقاومة لن يقع في هذا الفخ، فالحدود اللبنانية غير مشكوك بها ولها مرجعياتها الموثقة دولياً وفي سجلات اتفاقيات وخرائط عديدة. وكذلك الأمر في العراق الذي أصبح جاهزاً هذه المرة لصد أي وصاية أميركية عسكرية أو سياسية مباشرة أو خليجية مقنعة، واليمن أثبت بمناضليه الحفاة أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانتصار على السعودية وما يسمى بدول التحالف، وهذه هي بداية النهاية.
وإن غداً لناظره قريب..
د. عبد الحميد دشتي
التاريخ: الثلاثاء 4-6-2019
الرقم: 16993
———