هل يمكن استمرار العالم بدون نمو؟

ملحق ثقافي..حاتم حميد محسن:

يصعب حالياً التصور بأن العالم يمكنه البقاء بدون نمو، لكن الإنسانية تمكنت من ذلك بقليل من النمو أو بدونه لآلاف السنين. في بيزنطة وفي مصر كان دخل الفرد في نهاية الألف الأول الميلادي أقل مما كان عليه في بداية عصر المسيحية. معظم أوروبا لم تشهد أبداً نمواً في الخمسمائة سنة التي سبقت الثورة الصناعية. في الهند، كان دخل الفرد يتراجع باستمرار منذ بداية القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر.
وعندما اجتمع قادة العالم للاتفاق على وقف الانبعاثات الحرارية للبيوت الخضراء التي تهدد حياة الإنسانية على هذه الأرض، كان هناك سؤال يصعب مناقشته علناً هو: هل أن الحضارة التي نعرفها الآن يمكنها النجاة مرة أخرى بدون نمو؟ الجواب ببساطة كلا.
إن النمو الاقتصادي بدأ مسيرته في أنحاء العالم فقط في المائتي سنة الأخيرة، وهناك شيئان أمدّاه بالحياة: وهما الابتكارات والمزيد من الطاقة المرتكزة على الكاربون الذي يأتي معظمه من الوقود الحجري كالفحم والبترول. وبالنظر إلى الخطر الكارثي المحدق بالمناخ الذي بدأ يزحف منذ عقود، قام دعاة أنصار البيئة والعلماء وبعض القادة السياسيين بوضع المقترحات على الطاولة، والتي تؤكد على ضرورة وقف النمو في الاستهلاك العالمي.
الايكولوجي Paul Ehrlich من ستانفورد جادل منذ عقود بأننا يجب علينا إبطاء كل من النمو السكاني والنمو في الاستهلاك. هو قال: «كل من يعتقد بإمكانية استمرار النمو السريع والدائم في عالم محدود، هو إما مجنون أو اقتصادي».
التوصيات بضرورة وقف النمو ظهرت دائماً في مطبوعات الحركات البيئية الراديكالية مثل Dissent وكتابات الداعية البيئي Bill Mckibben وكذلك برزت في الأدب الأكاديمي.
فمثلاً، Peter Victory من جامعة يورك في كندا نشر دراسة بعنوان «النمو، النمو السالب والتقلبات المناخية: تحليل سيناريو»، فيه قارن انبعاثات الكاربون الكندية في ظل ثلاثة مسارات اقتصادية حتى عام 2035.


تخفيض النمو إلى الصفر، وجده الباحث خياراً ذا تأثير بسيط على الكاربون المتدفق في الهواء. فقط خيار «النمو السالب» الذي فيه دخل الفرد الكندي يتراجع إلى مستوى عام 1976 ومتوسط ساعات العمل للعمال الكنديين تنخفض بنسبة 75% هو الذي يكبح الانبعاثات الحرارية بطريقة فعالة.
وعلى صعيد الدبلوماسية الدولية، يتضح وبقوة طلب الهند من العالم الغني لزيادة حصتها من «كاربون الفضاء» carbon space ، (1) وهو الأمر الذي يعني منطقياً أن على الدول المتقدمة تقديم انبعاثات سالبة – تمتص المزيد من الكاربون من الجو بدلاً من إطلاقه فيه – لذا فإن دول العالم الفقيرة ستحرق طريق التنمية أمامها كما فعلت الدول الغنية في القرنين الأخيرين.
أما Tim Jackson من جامعة سيري والذي عمل في لجنة التنمية المستدامة التي انشأتها حكومة العمال البريطانية عام 2001، طرح استنتاجاً ملفتاً، اعترف فيه أن مواطني الدول النامية قادرون على اللحاق بمستويات المعيشة للدول الأوربية في منتصف القرن الحالي، وافترض أن أوروبا ستنمو بنسبة 2% سنوياً في الفترة بين الآن وذلك التاريخ.
لكي يمكن البقاء ضمن 2 درجة مئوية كمتوسط للزيادة في درجة الحرارة التي اعتبرها العلماء حداً أعلى لتجنب كوارث المناخ، ذلك يتطلب من الاقتصاد العالمي عام 2050 إطلاق ليس أكثر من 6 غرام من الكاربون المشبع لكل دولار من مخرجات الاقتصاد. وإذا نظرنا إلى هذا من منظور الحاضر، فإن الاقتصاد الامريكي يطلق من الانبعاثات 60 مرة بقدر ذلك الحجم. الاقتصاد الفرنسي هو من أكثر الاقتصادات فعالية في الكاربون، لأنه يستخدم الطاقة النووية بكثافة، لذا فهو يطلق 150 غراماً لكل دولار من المخرجات.
أما البروفيسور جاكسون فقد نشر كتاباً عام 2009 بعنوان «ازدهار بدون نمو»، توصل فيه إلى استنتاج حتمي. مهما كانت المزايا الأخلاقية لهذا الموقف، فإن مقترح الّلانمو ليس له أي فرصة للنجاح. لأنه إذا كانت الإنسانية عاشت لمئات السنين بدون نمو، فإن الحضارة الحديثة لا يمكنها ذلك. المأزق هو أن الاشياء اليومية المبنية على اقتصاد السوق لا يمكنها العمل في لعبة الصفر. «لا فرصة للنجاح في امتلاك صفر من النمو في أي بلد، لأن ذلك سيخلق المزيد من الصراعات بين الجماعات».
دعنا نفحص ما قدمه لنا النمو القائم على الوقود الحجري، إنه أعطى مكاسب في مستويات المعيشة حتى في المناطق الفقيرة في العالم، كان ذلك مجرد البداية. التنمية الاقتصادية كان لا غنى عنها لإنهاء العبودية. إنها كانت شرطاً مسبقاً حيوياً لتمكين المرأة. في الحقيقة، ما كان بإمكان الديمقراطية البقاء بدونها. وكما ذكر مارتن ولف المعلق في صحيفة الفايننشال تايمز، أن الخيار في أن يصبح كل شخص أحسن حالاً – وحيث مكسب فرد ما لا يتطلب خسارة لآخر- كان حاسماً للتنمية وإشاعة السياسة التوافقية التي تجسد الحكم الديمقراطي.
النمو الصفري خلق لنا جنكيز خان والقرون الوسطى، والسيطرة والإخضاع. إنه عجّل من خلق نظام تكون فيه آلية التقدم فقط عبر نهب الجيران. النمو الاقتصادي، وعبر التجارة، فتح خيارات أفضل بكثير من السابق.
الاقتصادي من أكسفورد ماكس روسر عرض رسوماً بيانية تبيّن مآسي الحروب عبر العصور. إنها كانت القاتل الحقيقي في عصر اللانمو. حوالي نصف الوفيات بين جامعي البذور والمزارعين القرويين وأجيال الثقافات القديمة الأخرى كانت قد نشأت بفعل الحروب. دموية القرن العشرين وما شهده من حربين عالميتين وتطهير عرقي للحروب لا يخرج عن ذلك السياق.
البيئيون الراديكاليون مثل الكاتبة Naomi Klein اعتبرت التغير المناخي فرصة لوضع نهاية للرأسمالية. لكن ذلك سوف لن يقود العمال إلى اليوتوبيا التي تحلم بها الكاتبة.
الشيء الجيد هو أن اتخاذ فعل ضد التغير المناخي لا يحتاج إلى القيام بمثل ذلك. إنه ليس أمراً سهلاً، لكننا نستطيع أن نلمح المسارات التكنولوجية التي تسمح للحضارة بالاستمرار بالنمو وتوفير مستقبل إيجابي للاقتصاد العالمي.
السؤال الأساسي الذي برز من التقلبات المناخية هو أكثر من كيفية وقف النمو، إنه كيف نطور بشكل تام ونوظف تكنولوجيا الطاقة المستديمة بحجم صغير لنساعد العالم الفقير وكل شخص آخر للسير في مسار التقدم الذي لا يعتمد على حرق الكاربون المطمور.
‏The New York Times, Dec 1, 2015
الهوامش
(1) حصة الكاربون أو ميزانية الكاربون هو المصطلح الذي استُعمل في نقاشات المناخ العالمي، ويعني كمية الكاربون التي يُسمح لكل دولة بإطلاقها في الفضاء. معظم الحكومات وافقت في مفاوضات كوبنهاكن للمناخ عام 2009 بأن على العالم أن يتصرف لمنع الاحتباس الحراري بحيث لا يزيد عن درجتين فوق مستوى ما قبل الصناعة. أيّ زيادة عن ذلك ستكون خطيرة ولها تأثيرات بعيدة المدى. وفق الاتجاه الحالي فإن العالم سيطلق واحد تريليون طن من الكاربون في عام 2040، وهو حتى الآن أطلق 574 بليون طن. ولكي نمنع العالم من إطلاق واحد تريليون طن (وهو الحد الذي قد تصبح به الأرض غير صالحة للحياة) لابد من خفض الانبعاثات بنسبة 2.47% سنوياً والاستمرار بالانخفاض بنفس النسبة حتى تصل الصفر. معظم الفضاء جرى استغلاله سلفاً بكثافة من جانب الدول الصناعية تاركة القليل لمن لحق بها متأخراً من الدول الفقيرة ذات الكثافة السكانية. السؤال هو كيف يتم توزيع المتبقي من الفضاء؟ هذا هو السؤال السياسي الذي لا يرغب به السياسيون. معظم الناس يرون أن التوزيع يجب أن يرتكز على أساس السكان. الولايات المتحدة تجاوزت حدها الأقصى منذ عام 1936 حيث أطلقت منذ عام 1850 من الكاربون بمقدار ثلاث مرات أكثر من الصين رغم أن سكانها يشكلون ربع سكان الصين، وبريطانيا التي سكانها 1% من سكان العالم تجاوزت حصتها القصوى منذ عام 1945 حيث شغلت 6% من الفضاء، وألمانيا بلغت حدها الأقصى منذ عام 1963. أما الهند فستصل إلى حصتها بعد عام 2050.

التاريخ 4-6-2019

رقم العدد:16993

 

آخر الأخبار
الدفاع التركية: هدفنا حماية وحدة أراضي سوريا والتعاون لمكافحة الإرهاب إيران.. بين التصعيد النووي والخوف من قبضة "كبح الزناد" وصول باخرة محملة بـ 8 آلاف طن قمح الى مرفأ طرطوس التعليم عن بُعد .. نافذة تفتح الأمل وسط رماد الحرب المرأة السورية عنوان الصمود ومرآة الهوية الوطنية إسرائيل عينها على إجراء مفاوضات.. هل هي جادة بالسلام مع سوريا؟ مفوضية اللاجئين: انتعاش العودة الطوعية إلى سوريا رغم الزيادة القياسية للنازحين التربية وتنمية العقول.. هل من علاقة..؟ د. موسى لـ"الثورة": توظيف الموروث الثقافي لتعزيز الوعي البيئي... مقتل شاب وتوقيف آخر على الحدود اللبنانية التطوع الرقمي.. أيادٍ افتراضية تبني الأمل من تحت الأنقاض لبنان يخطط لعودة نحو 400 ألف نازح سوري قبل نهاية العام حكمة فعالة.. أم مبالغة في الحذر؟.. قضاء الحوائج بالكتمان مستقبل "آسيان" إلى أين ... تمسك بالصين أم عزلة وتوجه للغرب ؟!. مصر تجدد إدانتها الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لسوريا مؤشرات التنمية ما بين " الخمسية" و"التخطيط الإقليمي".. د. شرف الدين لـ"الثورة": خلل في التوازن الحض... تحصيل أقساط القروض ..مكانك راوح..!! تعثروتراكمات وأعباؤها تتزايد "إسرائيل تتبنى وتؤكد" ارتقاء شهيد واعتقال مدنيين باقتحام بري لجيش الاحتلال في بيت جن "المجتهد" يتحول إلى فندق بخدمات خمس نجوم ليوم واحد! قبل قدوم الموسم السياحي.. صور سلبية بمدينة اللاذقية تستوجب المعالجة تسويق 3000 طن من القمح في درعا