مؤسسات الفن التشكيلي استراتيجيّة غائبة وتنسيق معدوم

 ملحق ثقافي..د. محمود شاهين :

مؤسسات الفن التشكيلي
استراتيجيّة غائبة وتنسيق معدوم

وبالتدريج بدأت تتكون نواة حركة فنية تشكيليّة سوريّة حديثة، تبلورت وتوضحت ملامحها، مع ازدياد عدد الفنانين التشكيليين المشتغلين على أكثر من جنس فني تشكيلي، خاصة التصوير متعدد التقانات، والذين يمكن تصنيفهم في ثلاث فئات هي: فئة الهواة الذين تعلموا الفن بشكل ذاتي. وفئة الذين تعلموه من خلال احتكاكهم بزملاء لهم سبقوهم في هذا المجال. وفئة الذين تعلموه من المحترفين الذين درسوا الفن في عدد من أكاديميات الدول العربيّة والأجنبيّة، وذلك قبل ولادة المعهد العالي للفنون الجميلة بدمشق عام 1960 (وكان يتبع يومها وزارة التربية) وتحوله إلى (كلية للفنون الجميلة) تتبع جامعة دمشق عام 1963.
مع انطلاقة كلية الفنون الجميلة في دمشق، تلقت الحركة الفنية التشكيليّة السوريّة الوليدة، دفعة كبيرة إلى الأمام، خاصة في العام 1964، حيث تخرجت الدفعة الأولى من طلبتها، باختصاصاتهم المختلفة، لتساهم مع الفنانين الآخرين الذين كانوا قد أوفدوا إلى مصر وإيطاليا، وعادوا ليشتغلوا بتدريس الفنون فيها وفي دور المعلمين والثانويات والمدارس، وفي إنتاج العمل الفني التشكيلي في آنٍ معاً.
وهكذا بدأت قوافل الفنانين التشكيليين، باختصاصاتهم المختلفة، ترفد الحياة العامة في سوريّة، وتالياً الحركة الفنيّة التشكيليّة بدم جديد، سرعان ما أورق إنجازات فنيّة نشيطة، تلقفتها بكثير من الترحاب والاحتفاء، وبشكلٍ لافت، فئات المثقفين السوريين المشتغلين على اللغات الإبداعيّة الأخرى، كالأدب والموسيقى، وبالتدريج بدأ المتلقي السوري عموماً، يأنس إليها، وقد ساعد على ذلك، انخراط الفنان التشكيلي السوري في الجمعيات والنوادي والتجمعات الثقافيّة التي شهدتها سوريّة قبل ولادة النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبيّة التخصصيّة التي ضمت إليها المشتغلين في حقول الثقافة والفنون المختلفة، ومنها (نقابة الفنون الجميلة) التي تأسست عام 1969 بجهود مجموعة من التشكيليين في دمشق، ثم تطورت وكبرت لتطول كافة المحافظات السوريّة الأخرى، ومن ثم تحوّلت اليوم إلى اتحاد له فروع ومقرات وصالات عرض وفعاليات فنيّة وثقافيّة واجتماعيّة عديدة. وبخط موازٍ، تابعت مديرية الفنون الجميلة بوزارة الثقافة، نشاطها ومهامها في الإشراف على صالات العرض الخاصة، ومراكز الفنون التشكيليّة والتطبيقيّة، وتنظيم المعارض الفرديّة والدوريّة الجماعيّة، وإقامتها داخل سوريّة وخارجها، واقتناء النتاجات المتميزة للفنانين التشكيليين السوريين، لترفد بها متاحف الفن الحديث (لم يُنفذ أيٍ منها حتى تاريخه) إضافة إلى مساهماتها المتواضعة في تجميل المدن والبلدات والمرافق المعماريّة المختلفة، كما أنيطت بها مهمة المشاركات السوريّة بالبيناليات العربيّة والدوليّة.
في المقابل توسعت كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق باختصاصاتها وكادرها التدريسي وعدد طلابها، وازداد عدد الفنانين التشكيليين المؤهلين المتخرجين منها، أو من الأكاديميات العالميّة في إيطاليا، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، وألمانيا، وبولونيا، ومصر.. وغيرها، (وغالبية الذين تخرجوا من هذه الأكاديميات الدولية، تأهلوا تأهيلاً عالياً لصالح الهيئة التدريسيّة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق) باختصاصات الرسم والتصوير والنحت والحفر المطبوع والعمارة الداخليّة (الديكور) والاتصالات البصريّة (الإعلان). وخلال السنوات القليلة الماضية، استحدثت كلية الفنون الجميلة والتطبيقيّة بجامعة حلب، وكلية الفنون الجميلة الثانية في السويداء التابعة لكلية فنون جامعة دمشق، وفي جامعة تشرين في اللاذقيّة نواة لتأسيس كلية فنون جديدة، وتضم غالبية الجامعات الخاصة، كليات للفنون الجميلة، تقتصر على اختصاصين مطلوبين في السوق الاجتماعي بإلحاح، نتيجة سطوة الأميّة البصريّة وانتشارها لدى الطلاب وذويهم وأفراد المجتمع بشكل عام. هذان الاختصاصان هما: العمارة الداخليّة (الديكور) والاتصالات البصريّة (الإعلان وملحقاته).


مع توفر هذه المقومات والأسس والمعطيات، ازداد المنتوج الفني التشكيلي السوري، ما استدعى ازدياداً موازياً في منافذ تقديمه للناس. وهكذا تنامت بشكلٍ سريع، صالات عرض الفن التشكيلي الخاصة والرسميّة والتابعة للمراكز الثقافيّة الأجنبيّة الموجودة في سوريّة، وشيئاً فشيئاً، بدأ النشـاط الفني التشكيلي يفرض وجوده بقوة وفاعلية في الحياة الثقافيّة السوريّة، ليصبح اليوم من أبرزها وأهمها. في كانون الأول 2015 تلقت الحركة الفنيّة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، دفعة كبيرة إلى الأمام، بافتتاح المركز الوطني للفنون البصريّة بجامعة دمشق الذي يُعتبر أكبر وأحدث مركز فني تخصصي في الشرق الأوسط. يضم في طابقه الأول صالة عرض بمسحة 1300 متر مربع، وفي طابقه الأرضي قاعة ورشات عمل بنفس المساحة، مُخصصة لمختلف أنواع ورش العمل لفنون: النحت، الحفر المطبوع، التصوير الزيتي، التصوير الضوئي، والاتصالات البصريّة.
صُمم المركز بالشروط التقانيّة المتعارف عليها في صالات العروض الوطنيّة الكبرى، المزودة بأجهزة الحماية، وأجهزة الإنذار، والحريق، والإطفاء. على هذا الأساس، تملك صالة عرض المركز القدرة والإمكانيّة، على استقبال أنماط الفن التشكيلي: التقليديّة والمُركّبة، والعروض البصريّة المعاصرة كافةً، إضافة إلى معارض متحفيّة، ومجموعات فنيّة دوليّة، الأمر الذي يُساعد على إعطاء صفة عصريّة للمنتوج الثقافي السوري (خاصة التشكيلي) ويُساهم بنشره: محلياً وعربياً ودولياً، والنهوض بمستواه شكلاً ومضموناً، وبالتالي تفعيله، وتفعيل التجربة التعليميّة الأكاديميّة القائمة إلى جواره ممثلةً بكلية الفنون الجميلة، بمستوياتها المختلفة، بالفكر العميق، والإبداع المتجدد، ما يقربهما من المعايير الدوليّة، عبر جملة من النشاطات العمليّة والنظريّة منها: إقامة معارض وورشات عمل دائمة فيه، واستضافة أسماء فنيّة كبيرة، عربيّة وعالميّة، مشهود لها بالتمايز والإبداع، وإقامة أمسيات موسيقيّة، وشعريّة، ومسرحيّة، ومحاضرات حول القضايا المعماريّة المعاصرة، بهدف التشبيك بين الفنون الجميلة المختلفة، وهذه الفعاليات مجتمعة، ستنعكس إيجابياً على جمهور الفنانين وطلبة الفنون الجميلة في آنٍ معاً. كما سيشكل المركز منطلقاً لمشروع الشارع الثقافي الجامعي الذي يبدأ من كلية الحقوق، وينتهي بكلية الهندسة المعماريّة. وفي طليعة أهدافه ومهامه، استقطاب الأنشطة الثقافيّة الإبداعيّة في محيطه، وهذه حاجة ملحة لمدينة دمشق التي تفتقر إلى شوارع ثقافيّة، قادرة على استقطاب ثقافة الآخر، وبالتالي نقل ثقافتها إليه.

 

 

 

يسعى المركز الوطني للفنون البصريّة، لتحقيق جملة من الأهداف أبرزها وأهمها: إحياء حركة الفن التشكيلي السوري الإبداعي وتفعيلها، بما يتماشى مع الألفيّة الثالثة، والتواصل مع الحركات التشكيليّة العربيّة والعالميّة، وإعادة إحياء الذاكرة الجمعيّة لهذه الحركة وتنميتها باستمرار، والبحث فيها عن المواهب الشابة، بهدف تبنيها ودعمها، وتطوير ملكاتها الإبداعيّة، وإقامة ندوات دائمة حول الفن التشكيلي السوري المعاصر، لتفعيل دوره وتأثيره في ثقافة المجتمع، وذلك في مسرحه الذي يتسع لنحو ألف متلق، إضافة إلى محاضرات وآماس، تطول الثقافة البصريّة والسمعيّة المتقاطعة مع ضروبه وأجناسه المختلفة، كالعمارة، والمسرح، والسينما، والموسيقى، والشعر.
ومن أهداف المركز، المساهمة بالإعداد لإقلاع متحف الفن السوري الحديث المزمع إقامته في دمشق، وتأسيس جائزة سنويّة للفنانين الشباب، الغرض منها خلق نوع من التحدي، بهدف الدفع لولادة أعمال فنيّة مغايرة. ولأنه في الأساس، مشروع فني وطني، سيتبادل بعض المعارض والنشاطات مع الصالات الرديفة المزمع إقامتها في المحافظات السوريّة الأخرى. يُضاف إلى ما تقدم، يهدف المركز لإقامة معارض تخصصيّة عربيّة دوريّة للفنون البصريّة المختلفة منها: معرض للطبّاعين (الحفارين)، وآخر النحاتين، وثالث للمصورين الضوئيين، وهذه المعارض، تُقام كل سنتين، إضافة لمعرض للفنانين العرب الشباب، وآخر لفن الخزف والسيراميك، وثالث للتصميم الفني لمواد استعماليّة، ووضع تقليد لمساهمة عربيّة سوريّة بالتصميم والإبداع الفني للقطعة الواحدة من الأثاث والمفروشات (الموبيليا). وهذه المعارض الثلاث، تُقام كل ثلاث سنوات.
كما يهدف المركز، إلى تقديم الدعم لكلية الفنون الجميلة وطلابها وخريجيها وأساتذتها، وتقديم منح على شكل مساعدات ماليّة، لعدد من الفنانين الشباب الموهوبين الذين يملكون مشاريع فنيّة، تُتوّج بمعارض مشتركة لهم، ومن ثم محاولة إيجاد فرق عمل تنفيذيّة متبادلة للمعارض والنشاطات الفنيّة، من خريجي كلية الفنون الجميلة، تحقيقاً لفكرة المُنظّم المسؤول (كوميسير) لإعطاء الصفة الأكاديميّة والمهنيّة المسؤولة في إقامة المعارض الفنيّة.
المؤسسات الثلاث (وملحقاتها) المعنيّة بالفنون التشكيليّة في سوريّة: كليات الفنون الجميلة، مديريّة الفنون الجميلة، اتحاد الفنانين التشكيليين، في وضعها الحالي جزر منعزلة، لا تنسيق ولا تعاون بينها، ولا برامج وخطط ورؤى استراتيجيّة في جعبها، تهدف للنهوض ببناها وطاقاتها الماديّة والبشريّة، من أجل توفير المتطلبات والمناخات والأسس السليمة والصحيحة، لولادة منجز فني تشكيلي سوري حقيقي، تحتاجه سوريّة اليوم بإلحاح، لكي تربطه بعملية إعادة الاعمار، من جهة، وللتواصل الثقافي والحضاري به ومن خلاله، مع الشعوب والأمم، كونه من أجناس الإبداع التي لا تحتاج إلى ترجمة، من جهة أخرى. هذا الواقع الخطير في تداعياته ومنعكساته السلبيّة المستقبليّة على الفن والفنان والوطن، يبدو أنه خارج اهتمامات الجهات الرسميّة والخاصة، المعنيّة بهذه المؤسسات.

التاريخ 4-6-2019

رقم العدد:16993

 

آخر الأخبار
بعد جولته في الجنوب السوري.. نتنياهو يتحدث عن الاتفاق الأمني على منصة "أبو علي إكسبرس"  سوريا تعيد تنشيط بعثتها الدائمة بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وتعيّن مندوباً دائماً  تخريج  نحو 500 طالب وطالبة طب أسنان وصيدلة في جامعة حمص  مدير تربية حلب يعد معلمي مناطق الشمال بدعم مطالبهم إدانات سعودية وكويتية لانتهاك سيادة سوريا.. واستفزاز إسرائيلي جديد في جنوب البلاد  الجولان السوري أرض محتلة.. الولاية فيه للقانون الدولي والشرعية حصرية لسوريا    الرئيس الشرع يستقبل طارق متري لمناقشة قضايا سيادية  ذراع "الكبتاغون" بين سوريا ولبنان.. نوح زعيتر في قبضة الجيش اللبناني أول رسالة عبر "سويفت".. سوريا تعود إلى النظام المالي الدولي    قاضية أميركية توقف قرار إدارة ترمب إنهاء الحماية المؤقتة للسوريين دمشق تستقبل طارق متري لمناقشة قضايا سيادية وزير العدل يعزز التعاون القضائي مع فرنسا  السودان يثمّن دور السعودية وأميركا في دفع مسيرة السلام والتفاوض توليد الكهرباء بين طاقة الرياح والألواح الشمسية القطاع المصرفي.. تحديات وآفاق إعادة الإعمار الخارجية توقع مذكرة تعاون مع الأمم المتحدة لتعزيز قدرات المعهد الدبلوماسي القبائل العربية في سوريا.. حصن الوحدة الوطنية وصمام أمانها  عدرا الصناعية.. قاطرة اقتصادية تنتقل من التعافي إلى التمكين نتنياهو في جنوب سوريا.. سعي لتكريس العدوان وضرب السلم الأهلي هيئة التخطيط والإحصاء لـ"الثورة": تنفيذ أول مسح إلكتروني في سوريا