جسر خليل حاوي… لم تهـدمــه طلقــــة

 

سبعة وثلاثون عاما مرت على غياب خليل حاوي الذي سدد طلقة للرأس ومضى , ليس لأنه لايريد الحياة , بل لانه ابن الحياة التي أذلت من قبل العدو , لأنه الصوت الذي عمل مع الحجر والشجر والبشر لكي تولد الأمة وتنهض , ولكن العمل كان خارج المألوف , نعم لأن الكثيرين استساغوا الذل والهوان , اجتياح اسرائيل للبنان , وعربدتها التي صمت الاعراب عنها , ولم يكن في الميدان لمواجهتها إلا الجيش السوري , والمقاومة اللبنانية , نعم طلقة واحدة للرأس لئلا يسأل الجسر الجديد عن الشرق الذي يريده الشاعر وإلى اين يمضي بنا , لا نهر الرماد , لا العنقاء , لاشيء ينفع في هذه الانكسارات إلا تسجيل الاحتجاجات الكبرى , ولكنها ايضا للاسف لم تكن ذات جدوى, عبر خليل حاوي إلى مكان آخر وظل نشيده الخالد ملء السمع والبصر, ولكنه ظل نشيدا على ورق , حتى النشيد خفت من قبل العديدين , تمر الذكرى باردة عند البعض في ظل هذا الانهيار الذي يرعاه ويتبناه مال الاعراب.
ومن اللافت ما كتبه الناقد حاتم الصكر عن خليل حاوي قبل الطلقة إذ كتب تحت عنوان: الرهان.. قبل الطلقة
تلك الحقبة التموزية شهدت رهان خليل حاوي على (فرخ نسر يطلع من نسل العبيد) كما يقول في (الجسر) آخر (أناشيد) نهر الرماد.
كان ذلك الرهان الذي ستنهيه الطلقة الحزيرانية ـ نسبة إلى حزيران الاجتياح لا حزيران النكسة الأسبق! ـ معقودا على القادمين من الجيل أو النسل بالمعنى الفني لا الخلدوني، أي الرمزي المغيّر لا التاريخي المتعاقب، ولهذا أهدى حاوي الديوان كله (إلى الطليعة المقبلة) وأثبت أبياتا مشهورة من (الجسر) في عتبة الإهداء لتعبّر عن تضحيته لقدوم تلك الطليعة من أفراخ النسر، وتلخص رؤيته للقادم من الوضع الحضاري لشعبه إزاء الواقع المتبلد والمتوقف زمنيا عن عصره:
(يعبرون الجسر في الصبح خفافا/ أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد/ من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق/ إلى الشرق الجديد)
ثمة شرقان إذن يفصل بينهما الجسر الذي سيعبره القادمون خفافا لا تعيقهم عوائق، شرق قديم رمز له بالكهوف والمستنقعات، بالظلمة والركود، وشرق جديد مضيء وعامر بالحياة: بالأعياد والحصاد والطيوب.
وإذا لم يكن للشاعر نفسه نسل بين هؤلاء العابرين فسيكفيه أنهم جمر يتدفأ به ويستضيء في المعاد الثلجي، وهم طعامه وشرابه في مهرجان حبهم الممثل بالحصاد.
هذا التفاؤل والرهان سينهدّ ويفشل. يعلن الشاعر قبل انتحاره ـ في أحاديث كشفت عنها ديزي الأمير ـ عن تلك الخيبة «حينما استرجع قصيدة الجسر أشعر بالحزن، لقد أعطيتهم عمري وذهبوا عني. وإذا قرؤوا القصيدة أو تذكروها فلا يصرفون عليها سوى دقائق».
لم تتوفر إذن الأيدي التي تُطلع الحصاد، ولم يأتِ النسل الذي يثور على عبودية السلالة ويستبدل بها حرية النسر وقوته وعلوه. لم تأتِ النار التي تضرب الأرض فتفجّر بواطنها وتُظهر خزائنها وتمنحها عمرا جديدا. لا قيامة على الأرض كما في الأسطورة التي تبناها الشاعر وراح يقيم لها طقوسا ويبشّر بها كوعد، مسقِطا تفاصيلها ودلالاتها على أرض الحاضر وفضاء المستقبل.
لقد كانت قصيدة خليل حاوي جمعا غريبا بين رومانسية واضحة في حرية الخيال والافتتان بالصورة، وبين العقلنة المجسدة للصراع بين القديم والجديد، والموت والقيامة، والفكر والعاطفة كما هي شخصيته التي تجمعت فيها حضارة الغرب والذات العربية، والعصامية والتعليم، فكانت الطلقة التي أنهى بها حياته هي آخر تلك المحاولات للجمع العسير: طلقة تفصل بين شرقين: قديم مغلق بكهوفه وأدرانه، وشرق جديد لم يتضح كنهه بعد؛ فطواه الغيب في عماء المجهول.
الجسر
وكفاني أن لي أطفالَ أترابي
ولي في حبهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أن لي عيد الحصادْ
أنّ لي عيدا وعيدْ
كلما ضوّأَ في القرية مصباحٌ جديدْ
غير أني ما حملت الحب للموتى
طيوبا، ذهبا، خمرا، كنوزْ
طفلهم يولد خفاشا عجوزْ
أين مَن يفني ويحيي ويعيدْ
يتولى خلقه طفلا جديدْ..
يتولى خلق فرخ النسر من نسل العبيد..
يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرقِ
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
«سوف يمضون وتبقى
فارغ الكفين، مصلوبا، وحيدْ
صنما خلَّفه الكهان للريحِ
التي توسعه جلدا وحرقا..»
اخرسي يا بومةً تقرع صدري
بومة التاريخ مني ما تريدْ؟
فرحي في كل ما أطعمتُ
من جوهر عمري
فرح الأيدي التي أعطت وإيمان وذكرى
إن لي جمرا وخمرا
إن لي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أن لي عيد الحصادْ
يا معاد الثلج لن أخشاكَ
لي خمر وجمر للمعادْ.
خليل حاوي الشاعر الرائي الذي سبق الجميع في القراءة لكنها قراءة المأساة , ماذا يقول وقد صار الشرق كله كهوفا , اي جسر نعبر , ومن يعبر وكيف , هل نعبر إلى حيث مال الاعراب , بالتأكيد: لا ,إنه العبور الذي يصنعه السوريون ابناء الحياة والخصب وصناع الاساطير التي تصاغرت أمام حقائق الفداء رصاصة لم ولن تهدم الجسر , بل كانت دعامة أساسية في مده إلى الغد , وهل من أسطورة انبل من فعل الفداء..

 

التاريخ: الأربعاء 5-6-2019
الرقم: 16994

 

 

 

آخر الأخبار
بانة العابد تفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال 2025   لبنانيون يشاركون في حملة " فجر القصير"  بحمص  ابتكارات طلابية تحاكي سوق العمل في معرض تقاني دمشق  الخارجية تدين زيارة نتنياهو للجنوب السوري وتعتبرها انتهاكاً للسيادة  مندوب سوريا من مجلس الأمن: إسرائيل تؤجج الأوضاع وتضرب السلم الأهلي  الرئيس الشرع يضع تحديات القطاع المصرفي على الطاولة نوح يلماز يتولى منصب سفير تركيا في دمشق لأول مرة منذ 13 عاماً  الجيش السوري.. تحديات التأسيس ومآلات الاندماج في المشهد العسكري بين الاستثمار والجيوبوليتيك: مستقبل سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية الأولمبي بعد معسكر الأردن يتطلع لآسيا بثقة جنوب سوريا.. هل تتحول الدوريات الروسية إلى ضمانة أمنية؟ "ميتا" ساحة معركة رقمية استغلها "داعش" في حملة ممنهجة ضد سوريا 600 رأس غنم لدعم مربي الماشية في عندان وحيان بريف حلب من الرياض إلى واشنطن تحول دراماتيكي: كيف غيرت السعودية الموقف الأميركي من سوريا؟ مصفاة حمص إلى الفرقلس خلال 3 سنوات... مشروع بطاقة 150 ألف برميل يومياً غياب الخدمات والدعم يواجهان العائدين إلى القصير في حمص تأهيل شامل يعيد الحياة لسوق السمك في اللاذقية دمشق.. تحت ضوء الإشارة البانورامية الجديدة منحة النفط السعودية تشغل مصفاة بانياس لأكثر من شهر مذكرة تفاهم مع شركتين أميركيتين.. ملامح تحول في إنتاج الغاز