كثيرة هي المصطلحات التي لم تضبط بشكل دقيق ولم يصل النقاش فيها إلى حد حاسم وقاطع وهذا ليس عيبا فيها إنما هو ثراء دلالات ومعان تقود إلى الجديد الذي يصبح بدوره قديما ومنها الثقافة والعلمانية التي انتشرت كمصطلح بعد ما تعرض له الوطن العربي من كوارث باسم التدين …ولا نعني أن المصطلح وليد اللحظة لا بل إنه ازداد في بورصة التداول والجميع بدأ يردده وتحت شعار نريد دولة علمانية، بمعنى اكثر وضوحا ودقة كأنهم يقولون وداعا للدين لكن هل هذا المعنى الذي يمكن العثور عليه بين معاني العلمانية …هل تعني الإلحاد…..
بالتأكيد الجواب القاطع:لا، ليس هذا من معاني العلمانية ولا يقترب ابدا من ادبياتها التي تزداد ثراء
وربما من المفيد أن صدرت ترجمة كتاب ما العلمانية لهنري بينا رويز، ترجمه الدكتور محمد عرب صاصيلا، وصدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق.
الكتاب سفر في فلسفة العلمانية واذا كانت القراءة صعبة وغير دقيقة بالنسبة للاختزال فإنه يمكن الوقوف عند منعطف مهم جدا من الكتاب يكاد يكون لب الموضوع ويحمل في دلالته معنى القدرة على المقاربة بين الثقافة والعلمانية..بل الانتقال من الثقافة كمصطلح ومفهوم عام وانساني بمعناه الثر.
واذا كانت الثقافة هي الخلاص النهائي للبشرية ولكنها ليست اي ثقافة إنما تلك التي تعني فيما تقدمه من طاقات خلاقة من فنون وابداع، وما قدمه الانسان القديم وما أنتجه وصار جزءا من تراكم معرفي وحضاري، ما جعل المؤلف يخلص إلى القول إن ما نعيشه هو نتاج من رحلوا بمعنى اخر نحن ايضا سنكون مدماكا في بناء الحضارة ولسوف يعيش من يأتي بعدنا بما راكمناه نحن على ما كان وبدوره سيفعل هو والأمر دواليك.
يرى رويز في كتابه هذا أن معرفة التراث الإنساني الثقافي من دون استثناء تشكل جزءا من تكوين الانسان المستنير والإنسان الكامل ويمكن للحياة الاجتماعية السياسية نفسها أن تتغذى من أجل توسيع ميدان المراجع التي تأخذها في الحسبان، وباختصار: فإن مواطني اليوم يمكنهم بلوغ سن الإنسانية كلها بدل الانغلاق على أنفسهم في الأحكام المسبقة للحاضر والتقاليد الإيمانية التي يثيرها وهم بالاستناد إلى إرث ثقافي من ألفي سنة وأكثر يجعلون ذكرى الأعمال والنضالات والشهادات الروحية ومكاسب العقل رائعة لوضوح من الصعب بناؤه دائما لكنه جوهري لتوجيه الحياة ولممارسة المواطنة.
العلمانية تعتزم الاستجابة لمثل هذا وهي تأخذ حرفيا بمقولة أو ملاحظة اوغست كونت التي جاء فيها صنعت البشرية من الأموات اكثر مما صنعت من احياء…
وهذا يعني ضرورة معرفة أساطير وآداب العالم كله لانه مهم من وجهة نظر علمانية لاسيما انها تسمح لكل فرد بإعادة إنتاج نفسه في تاريخ ما ويفهم الأعمال والمعتقدات والرموز وهي تخلص الضمير من كل ضيق بفتحها ميدان المراجع قدر الإمكان وتضعه على مسافة منها وتسهم بهذا في بناء استقلاله الذاتي.
وخلاصة ما قاله اوغست كونت:بين الإنسان والعالم يجب وجود الإنسانية…وهذا ما يدعي الثقافة التي يرتقي الانسان خلالها لبلوغ الكمال، وليس المعطيات الساكنة لحضارة معينة..وبهذا المعنى يقال ان الإنسان أنتج آدابه القديمة وهذا يقود إلى تجاوز المجتمع الآني..فالثقافة تجعله خالدا ومن لا تكون الثقافة دربه إلى المجتمع فهو ليس العلماني.
وبالتالي الثقافة هي الدرب ولغياب الثقافة عن المجتمعات الانسانية كان الانحراف الذي قاد الى مفهوم مضلل مفاده أن العلمانية ملحدة , بينما الأمر ليس كذلك على الاطلاق , فالخصوصية التي يجب أن يتمتع بها اي فرد من أفراد المجتمع يجب أن تبقى قائمة , وهو حر بأي طقوس ومعتقدات يؤمن , لكن الإطار الجمعي , أو ما يسمى المجتمع فهو المعني بسيادة القانون , وعلى الدولة أن تحميه وتعمل على صونه , وألا تسمح لأي جهة مهما كانت أن تأخذه إلى مكان آخر , وبالتالي فالقانون والمساواة في المجتمع بشكل عام طريق العلمانية , ولن نصل إليها مالم تكن الثقافة التي تعني بناء الانسان هي الدرب , فالدولة وقوانينها المدنية هي الوصائية على الجميع سواسية , اما المعتقدات فهي شأن خاص يجب ألا يفرض على أحد , وللوصول إلى ذلك لابد من درب الثقافة.
دائرة الثقافة
التاريخ: الجمعة 7-6-2019
الرقم: 16996