ما إن ينقضي شهر رمضان بما يكتظ به من مسلسلات درامية، وبرامج حوارية مع أهل الفن، وأخرى ساخرة رُصدت خصيصاً لهذا الشهر حتى تبدأ التحضيرات لموسم المسلسلات الجديدة، والضحكات السعيدة في سنة قادمة يجب أن تكون فيها المسلسلات الدرامية، كما البرامج التلفزيونية أكثر كثافة، وتنافساً فيما بينها ولتحفل بها القنوات الفضائية بما هو أكثر امتداداً في الحلقات، واكتظاظاً في المنوعات. وكتّاب السيناريو ينشطون، ولا يهدؤون على مدى عام في توقيع العقود، وكتابة النصوص الدرامية التي يتلهف اليها المخرج، كما المنتج.. والعجلة تدور ولا تقف، وتتسارع ولا تتباطأ.
هكذا تبدو الصورة.. لكن أكثر ما يثير التساؤل هو مدى التطور الذي حملته تلك الأعمال التلفزيونية على تنوعها بين عام وآخر عن سابقاتها في أعوام خلت.. فهل هي تطورت بما يكفي لترضي كافة الأذواق؟ وهل هي ارتقت بمضامينها بما يتجاوز دائرة التكرار؟ بل هل أصبحت أكثر احتراماً لعقل المشاهد، وما ينتظره منها دون أن يخيب الرجاء؟ أم أنها تعيد إنتاج نفسها ولكن بأساليب مختلفة، أو يستنسخ بعضها من بعض دون تطور في الرؤية؟ وأغلبها يدور في فلك المؤامرات، والعنف، وينتهي بانتصار الخير على الشر.. المقولة التي لا تأتي إلا في الحلقة الأخيرة من تلك الدراما التي ما زالت تحبو نحو النضج دون أن يدركها ما يكفي منه. أو أنها تستقي قصصها من أفلام أجنبية، أو حكايات ما عادت تثير الاهتمام كما كان حالها في سابق عهودها، فقد تبدلت بعض المفاهيم باختلاف الحضارات، والثقافات التي تمازجت بدرجة كبيرة بفضل الثورة الرقمية، وما يتاح من خلالها من تعارف بين الشعوب.
إن اهتماماتنا من خلال ما نشاهده على الشاشات باتت تعلن أننا أقرب إلى فنون الموضة، والتجميل، والرقص، والغناء، والتمثيل من غيرها من الاهتمامات الأخرى في الحياة، وكأنها مساحة للهو، وللخروج من صندوق الحياة الذي يضيق بنا أكثر فأكثر.. حتى أصبحنا نستقي ثقافتنا من المسلسلات، ومعها قيمنا.. التي ترسخها بعض أعمال درامية مرتجلة، وربما غير مدروسة، أو أنها تتسم بالسذاجة، والخلل الفني لتصبح هي المُعلم، والموجه وخاصة للنشء الصغير. أما البرامج الحوارية فتكاد تقتصر على أخبار أهل الفن، وإذا كان هناك حيز لبعض الفضائح يكون الرواج أكبر لتلك البرامج حتى كاد الأمر يتحول إلى حالة من الإلهاء الإعلامي الذي لا يسمن، ولا يغني من جوع. أما اللغة الأجنبية بمفرداتها التي تأتي في سياق الحوارات فقد باتت تقتحمنا إلى درجة لم نعد نفرق معها ما إذا كنا نستمع إلى برنامج، أو لقاء هو باللغة العربية أم باللغة الأجنبية.. فهل هي عقدة (خواجا) جديدة أصابتنا دون أن ندري؟
وإذا ما انتهى موسم المسلسلات بدأ موسم آخر هو للتقييم، والتحليل، والنقد، وربما التبرير.. وإفراد برامج حوارية أخرى لمناقشة تلك الأعمال التلفزيونية الموسمية بما لها، وما عليها، وبما يكفي ليبقى الناس منشغلين بمصائر أبطال الدراما الرمضانية من موسم إلى موسم، ومن عام إلى عام، والتكهنات تأخذ مجراها بين هذا وذاك وما يليه من الإلهاء الإعلامي، والاستخفاف بعقول المشاهدين إذ قد يُبعث الموتى من القبور حتى يكملوا مصائرهم التي علقتها حلقات الموسم السابق من الحصاد الدرامي الذي تهافت عليه الناس دون أن يدروا أنهم إنما قد علقوا في فخاخ السطحية، وتزجية الوقت ليخرجوا بلا حصيلة لا على مستوى الفن، ولا اللغة، ولا تجارب الحياة، اللهم إلا من المؤامرات التي تحاك، والمكائد التي تنصب، وفكر الاحتيال الذي يزدهر في مثل هذه المسلسلات، والتي لا يطيب عرضها إلا في الشهر الكريم شهر رمضان، وهو قد أتى في حقيقته ليصلح أحوالنا لا ليهدمها، وليجعلنا نستثمر في أوقاتنا ولا نضيعها.. ومن ثم تذهب المواسم كلها أدراج الرياح، ولا مَنْ يسأل: أين دور الفن كمحرض للتغيير، والتفكير الإيجابيين؟
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 14-6-2019
رقم العدد : 17000