يتجه الفنان التشكيلي عرفان حمدي في لوحاته لإضفاء الخطوط والحركات اللونية والخلفيات التجريدية,التي تتداخل مع الوجوه والعناصر الإنسانية المختصرة والمبسطة, ضمن صياغة تعبيرية، تقربها أكثر فأكثر من تطلعات الحداثة الفنية التشكيلية، كذلك نجد ملامح الحداثة في إضفاء المزيد من التحوير، والاتجاه في بعض المقاطع إلى التجريد, الذي يقدمه أحياناً بطريقة النثر والتبقيع اللوني.
وجوه مفجوعة
وهو حين يجعل أشكاله تتجه نحو التحوير والتلخيص، فانه في ذلك يعطيها بعداً انسانياً, مرتبطاً بالواقع الراهن، المحاصر بمشاعر القلق والتوتر والإضطراب في مرحلة الحروب والأهوال، نجد ذلك في تعابير العيون وملامح الوجوه المعذبة والحزينة والمفجوعة, في حين تبرز الوجوه النسائية الجميلة كإشارة للانعتاق من اسر الواقع, وهذا يعني أنه لم يجسد اللوحة كحالة معبرة عن جماليات الفنون الحديثة فحسب, وإنما جسدها أيضا كرمز للواقع المشحون بالتناقض, وكرسالة إنسانية تحرض على الخروج من نفق ظلمة ومرارة واقعنا المأساوي، المفتوح على كوارث الحروب المتواصلة دون توقف او نهاية.
وعرفان حمدي (ينتمي لأسرة فنية شهيرة، فهو شقيق ساحر الخط واللون والضوء الراحل الكبيرعمر حمدي – مالفا) وهو يجسد الدلالات التعبيرية والرمزية لإيقاعات الوجوه الموجوعة والمنكسرة، عبر عناصره التشكيلية الحديثة القادمة من مشاهدات حرائق المدن، وتداعيات الدمار الداخلي والخارجي,وفصول المخاض العسير، الذي نعيشه في المرحلة الراهنة,المشبعة بالتوتر والتمزق والاضطراب والتشنج والترقب.
جماعات مهجرة
هكذا تبرز في لوحات عرفان بأحجامها البانورامية همجية العنف المجنون لهذا العصر، من خلال تكرار التعامل مع هذه الرموز الإنسانية التعبيرية المرتبطة بالواقع الراهن، وهو في ذلك يريد ان يكون شاهداً على مرحلة، يلتقط تفاصيلها، مآسيها، اضطرابها اللامعقول. حيث تتداخل الدلالات اللونية في اللوحة حتى درجات التناقض، في خطوات التعبير عن حدة تناقضات الواقع، فالدمج ما بين القتامة والوهج، وما بين رموز الموت والخراب والدمار، وبين رموز الحياة والولادة الجديدة يعبرعن تداخل الأحاسيس والرغبات والهواجس الإنسانية، وعمق المعاناة في المرحلة الراهنة.
وحتى لا يتحول هذا الخراب والدمار والموت إلى كابوس دائم, يجسد عرفان برمزية لونية دلالات الحلم بالمستقبل,وبرموز الولادة الجديدة, تاركاً فسحة أمل في لوحته للضوء الساطع, القادم من ضوء المكان، حتى تستمر الحياة في الأمكنة المدمرة والمحاصرة. فالأرض المجسدة في لوحاته بألوانه الترابية، تحمل كل المجازر والأوجاع والقلق المرتبط بثقل خطوات الاقتلاع والتهجير (المجسد في بعض لوحاته التي تحتشد بالعناصر الإنسانية) اما الوهج اللوني فهو يخفف من حدة السواد، ويمنح العين المزيد من الأمل بعودة الحياة إلى الأرض المحروقة والأبنية المتصدعة والمحروقة (حيث يركز لإظهار اللون البني المحروق في أماكن متفرقة من بعض لوحاته).
فالموضوع الانساني هو نقطة الارتكاز الأساسية في هذه المجموعة من اعماله (قياسات موحدة 130×130سم) يريد من خلاله الوصول إلى التكثيف التعبيري المطلوب، المعبرعن حدة تناقضات الحياة والموت والتبشير بالولادة الجديدة, ونجد ما يمكن ادراجه في اطار الصياغة الرمزية، على طريقة تبسيط الوجوه ودمجها بطريقة متجاورة ومتلاحقة ومضاءة على أرضية لونية خافتة او معتمة, وبطريقة تركيب الطبقات اللونية, حيث نجد عدة وجوه في اللوحة الواحدة.
حيونة الإنسان
هكذا يبرز الاداء الرمزي المأساوي، المجسد بألوان كثيفة وبطريقة الرسم التعبيري العفوي والتلقائي، والمرتبط في احيان كثيرة ببؤرة الانفعال الرئيسي. فاللوحة هنا تشكل مدخلا لرؤية اجواء القلق والاختناق اليومي، انها النص التشكيلي المشرع على كل احتمالات التفسخ والخراب, والعمل الفني القادر على استقطاب تعابير الوجوه المشدودة ليوميات الموت الأسود، وحكايات المخاض العسير، المتصاعد مع صيحات الجنون والوحشية الانسانية, حتى أنه يعمل في بعض اللوحات على حيونة الإنسان وأنسنة الحيوان. ولهذا فاللوحة التي يجسدها ليست إلا صدى لمرايا الدمار والخراب والقتل والأهوال والمآسي والويلات والأحزان المتواصلة، انها الصورة التشكيلية المعبرة عن تعابير الوجوه بحالاتها المختلفة، وسط مشاهد الدمار والخراب واشباح الموت.
ويركز في بعض لوحاته لإظهار حالات المفارقة الصارخة (بين الوجوه الأنثوية الجميلة وبين الإنسان الذي يجسده على هيئة حيوان) كل ذلك لمضاعفة الإحساس بمرارة الواقع الذي اصبح يحمل رعباً وقدراً هائلاً من الخوف. كما تبرز لمسات الفرشاة المتقطعة والمعبرة عن حساسية بصرية تتلاءم مع توجهات فنون العصر, ونجد اللون المشتق من الأحمر، والذي يرمز الى الدم والحرائق, يغطي الوجوه والأجساد ويحيط بها من كل جانب.
وإذا كانت لوحات عرفان حمدي مرتبطة من ناحية مواضيعها، بالأحداث الجسيمة الراهنة, فإنها على الصعيد التشكيلي والتقني, تشير الى بحث تعبيري وتقني يناسب المرحلة, وهي تؤكد رغبته في أن يبوح بهواجسه, بعفوية وصدق وأمانة وبالمختصر المفيد، وعلى سبيل المثال تتحول الجماعات الإنسانية والوجوه والأرض,الى اختصارات مرسومة بتلقائية خطية شديدة, تتخللها ضربات لونية شديدة العفوية متداخلة ومتجاورة ومتلاحقة ومتتابعة، تبرز كعناصر أساسية في التكوين والتأليف معاً.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الاثنين 17-6-2019
الرقم: 17002