لم أكن أتخيل أن هذا الشاب المراهق يحمل كل هذه الهموم..
كنت أظن أن الشبان الصغار الذين كبروا في عالم الأنترنت وتفتحوا على فكرة أن العالم قرية صغيرة يستطيع كل فرد فيها أن يقبض عليها بمجرد أن يملك المال والخيال. وأن الطابع الاستهلاكي لحياة المراهقين هي التي تستحوذ على تفكيرهم واهتماماتهم.. فلا يشغلهم سوى سيارة وبيت جميل وحساب في البنك يستطيع أن يجذب جميلات المدينة، نافضاً عن كاهله كل هزائم الماضي وانكسارات الحاضر الذي يحاول الفرار منه بأي وسيلة. إلا أني فوجئت بمجموعة من الشبان الذين لم يتجاوزا السابعة عشره وقد التفوا كباقة ورد زاهية لكنها عطشى للمعرفة والعلم والغوص في التاريخ العربي المليء بالزيف والكذب والدم والانتصار الممزوج بالهزيمة، كانوا يريدون أن يعلموا كيف كتب التاريخ وكانوا يناقشون من منطلق الحاضر الذي يعيشونه مع ذلك لا يملكون مفاتيحه ولا يقدرون أن يتوصلوا إلى كنه ما يجري.
وبالرغم من تقدم الصورة وتطور التكنولوجيا وإحاطة الإعلام بكل ما يجري في الكرة الأرضية إلا أنهم يقعون في الشك حول كل خبر وحول كل جواب على أسئلة المستقبل التي تؤرقهم وتجعلهم غير آمنين. ما يدفعهم للبحث والتنقيب في جيوب الماضي.
وما يزيد من توتر هذا الجيل هو طموحاته الكبيرة.. وبالوقت عينه (ضيق ذات اليد) وضيق أفق الانتماء عند شرائح كثيرة من الشعب الذي انخرط في البحث عن الماء والخبز والسكر واللباس والمأوى، فتعرجت الدروب وضاع الانتماء وصارت قضية القضايا الحفاظ على حياة لائقة بعيداً عن الانفعالات الوطنية الكبيرة.. وهذا ربما عيب من عيوب أبناء التاريخ الحديث الذين (سطّحتهم) المادة والحاجة ما أدى لأن يصبح الهم القومي هماً فردياً يحمله نخبة المجتمع الذين لا يقدرون أن يغيروا شيئاً في عمق العلاقة بين الأرض والمواطن والتاريخ والجغرافيا أمام رجالات السلطة الذين يظنون بأنهم يعرفون كل شيء ولا حاجة لهم للمثقفين.
ومع أني شبه جازمة في أمر العلاقة بين المثقف والسلطة بحيث تزداد بعداً يوماً بعد يوم، إلا أني فوجئت بنسبة كبيرة من الشبان الذين يناقشون قضايا الوطن.. فربما هي الحرب الطويلة على سورية جعلت هذا الجيل الشاب يتابع السياسة ويخوض في حوارات أكبر منه لأنه لم يعد يصدق الآباء ولا يقتنع بما كتبه الأجداد.. وكل روايات الجدات اللواتي كن يسردنها لأحفادهن عن البطولات والمعجزات لم تعد مقنعة، بل هناك جيل شاب في سورية الآن يدهشك بصبره ونفاذ بصيرته وتحمله للأوضاع السياسية والاقتصادية التي يعاني منها الجميع.. وهؤلاء في معظمهم ينتمون إلى الأسر الفقيرة وإلى أبناء الشهداء والمقاومين الذين تربوا تربية منتمية ثابتة وصادقة.. في الوقت ذاته.. هناك فئة من الشبان الذين تربوا في بيوت التجار والمتنفذين والذين لا يعنيهم سوى كم يصبّ في جيوبهم من مال كل يوم بحيث يتحول هذا المال إلى سلطة ونفوذ وتسلط، بأي وسيلة من الوسائل دون التطلع إلى هموم المواطن ومعاناته.. فالمواطن هنا هو سلعة لا أكثر كم يربح به ومن خلاله؟. وإذا لم يحققوا ذلك فلا بد لهم من البحث عن وطن آخر أو مكان آخر يحقق لهم الأمان المادي بعيداً عن الحروب والدماء والانتماء ومشكلات الجغرافيا والماء والغذاء.
وللأسف هذه الطبقة تظهر في الحروب التي تطول فيكثر فيها التجار والمراوغون والسماسرة بمقابل فئة مضحية، منتمية، مقاومة تنتهج خيارات الصمود ورفع راية الوطن مهما كلف الأمر.
إن من يراقب شبابنا المنتمي الذي يذهب إلى التطوع في الجيش السوري بكل عزيمة وعلو همة يدرك معنى ما أقول.. لقد حولت الحرب جزءاً من شبابنا إلى مناضلين أشداء زاهدين بكل متع الحياة إلا متعة النصر والانتصار.. وسيكون لهم ذلك بإذن الله.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 19-6-2019
الرقم: 17004