فنانٌ وإعلامي، لا يمكن إلا أن تعيد اكتشافه مع كل عملٍ إعلامي أو فني يبدعه.. أحيانا تروق له الكتابة فيحترفها بكتابة عدد من النصوص السورية والعربية.. فجأة، يردّه الشغف إلى إخراج الأعمال الدرامية..
أيضاً، هو ممثّل ومسرحي ومقدِّم برامج في غالبية الدول العربية.. كاتبٌ ومحاورٌ لا تنفصل لغة أعماله الفنية، عن لغة كتاباته الأدبية.
إنه «سامر خضر» الفنان الأردني-الفلسطيني، بل وكما عرَّفنا بنفسه: «الدمشقي الذي كانت صرخته الاولى في غرب هذه المدينة، وتحديداً على ناصية زقاق في «مخيم اليرموك».. الدمشقي الذي عرف ومّذ لحظة ولادته إلى حاضر عبارته، بأن حتمية الميلاد هي أصل الوجود وأول بيرق يبشِّر بمفهوم الوطن، وارتداد الروح إلى ساكنها، عندما يعود لها دوماً وفي جميع أعماله..».
• هكذا بدأنا مع هذا الفنان المتعدِّد المواهب كما الانتماء.. بدأنا باستدعاءِ سيرته، فاستجاب قائلاً عن بدايته:
•• ولدت في دمشق، وفي إحدى حارات «مخيم اليرموك»، وقد درست كما كلِّ اللاجئين الفلسطينيين، في مدارس هذا المخيم الذي أشعرتني انطلاقتي منه، بفلسطينيَّتي وسوريتي معاً.. أشعرتني، بمعنى ومفهوم الوطن.
كان والدي يعمل في «صحيفة البعث» السورية، وكنت أرافقه وأتابع عملية التنضيد الضوئي وتصحيح الأخطاء والإخراج والنشر، وأشمُّ رائحة الحبر والورق، وهو ما قرَّبني من عوالم الكتابة التي تعلّمت منها أن الحياة موقف، والكلمة موقف.. هو أيضاً ما جعلني أحبُّ وأتمنى أن يكون لي بصمة في هذا العالم.. عالم أبجدية الكلمة..
في عام 1988 كانت حادثة الأزبكية، وكان والدي أحد ضحايا التفجير الإرهابي الذي أفقده الكثير من أجزاء جسده.
إنه ما جعلني أعرف معنى الألم مبكراً، ولأنني رافقت والدي في جميع مراحل علاجه التي تمَّت على حساب الدولة السورية التي اعتبرَتها إصابة عمل..
بعدها، وفي بداية عام 1990 عدنا إلى «الأردن» وفيها تابعت دراستي وتفوقت في اللغة العربية بطريقةٍ أهَّلتني للمشاركة في مسابقات التربية والتعليم، ولأنني كنتُ الأول على المملكة في كلِّ مسابقات الشعر والمقالة والقصة القصيرة، شعرت بأنني أملك شيئاً ما..
بعد انتهاء الثانوية العامة عدت إلى « دمشق» لأبدأ دراستي الجامعية، ولكنها كانت في «حلب» في كلية الحقوق. بقيت فيها عامين لكن، وعندما اكتشفت أن دراسة القانون ليست طموحي، عدت إلى «الأردن» لأصارح أهلي وأصدمهم، برغبتي في دراسة الإخراج الدرامي لا العمل القانوني.. طبعاً لم يمانعوا، فلا أحد بإمكانه إيقاف قرارك إن كان صادقاً وحقيقياً..
هكذا بدأت بالتدرج في تحقيق طموحي. بدراستي في «جامعة اليرموك» قسم الإخراج السينمائي، وبتفوق جعلني الأول على دفعتي، باختصاص سينما وتلفزيون..
• يتابع «خضر» الحديث قائلاً عن سيرته الفنية، وبدءا من أولى أعماله التي كانت تُقدم على قناة «المحور» المصرية.
•• «اسمعونا» أول أعمالي، وهو برنامج يجمع الشباب العربي من دول عديدة ليتحدثوا عن قضايا عربية من عدة وجهات نظر. لكن، وبعد أن عُرفت وبدأتُ أتلمس عالم الشهرة «ولم يكن يومها الميديا ولا مواقع التواصل» بدأت تأتيني عروض عديدة، لكني آثرتُ البقاء مع من اكتشفني في هذا البرنامج.
بعد تغيير الإدارة والتوجه، شعرت بأنه لم يعد لي مكان في هذه القناة. عدت إلى الأردن وقدمت برامج صباحية. أيضاً، تغيرت المواقف، ولم تطل الرحلة لأسباب لن أذكرها لكنها لم تجعلني أكتشف بأنني مطالب بمواقف إضافية فقط، بل وبأنني لازلتُ بعيداً عن تخصصي في الإخراج التلفزيوني.
بعد عملي هذا، تم تكليفي من قبل مؤسسة إنتاج بعمل في نيويورك، وهو توثيقي يتحدث عن السلم والتواجد العربي في معسكرات قوات حفظه. استمريتُ فيه عامين وفجأة، قرَّرت العودة إلى ربة الياسمين دمشق. كانت رحلة فيها عناق الذات، والالتحام مع أرض الحبِّ والحياة..
اتفقت مع شركات إنتاج معروفة على تقديم أعمال شبابية، وأشرفت على دورة تدريبية، وقدمت «وجوه وأزمنة» وهو عملي الأول وكان من تأليفي وإخراجي».
أيضاً، وبعد استدعائنا لسيرته الذاتية والفنية، استدعينا فلسفته حول الانتماءِ والوطن الذي استشعرناه يتنفسه ليحيا، ولتنتعش أوراقه ومفردات ذاكرته: «لا ترتبط بالأماكن، فالإسفلت ليس له ذاكرة. إلا الوطن، فهو ذاكرة الأوفياء».
• بيد أننا قرأنا وجعه الذي تفاقم بسبب وعيه وعقلانيّته، وبتبيانه الفرق «ما بين الاحتراق والاشتعال» حيث رسالته.
•• «أن تحب بلادك وترتقي، رائعٌ ومهيبٌ ولابد منه أصلاً.. هذا اشتعال، ولكن أن تحمل سيف التصنيف، وأن تخوِّن وتُقصي وتُحاسب مُشخصناً ومكتنزاً أحكاماً جاهزة أو مسبقة.. أن ترمز وتؤدلج وتعمِّق جراحنا لمجرَّد أنك قرأت شيئاً من كتابٍ، فحملتَ بوقكَ لتقذفنا بحالةِ اشتباه تعممها لتهزمنا، فهذا احتراق.
أن تتصدر منصباً للخدمة العامة وأن تمثل زملاءك في أي هيئة أو كيان أو نقابة هذا اشتعال. لكن، أن تجبر الآخرين على أن يصبحوا قطيعاً وجوقةً وراءك، وترهقهم بالفكرة قبل التفكير، وبالعبرة قبل التعبير، وأن يصبح من ليس معك ضدك.. هذا احتراق.
• حتماً وصلت رسالته، ولكلِّ من عليه أن يشهر وفي هذا الزمن المظلم، قلمه وفنّه وفكره وأخلاقه كما «خضر» الذي لازال يشهرهم رغم نزيف ماحوله وبقوله:
•• «كل هذا يحصل ومازلنا أحياء، ونرتاد ذات الأماكن.. نغرس عيوننا في الوجوه التي اعتدنا عليها.. نفارق ببرود، ونبقى بهلعِ الرحيل تائهين.. عربٌ بلا دمشق ولا بغداد ولا يمن أو ليبيا.. عرب بلا قدس أصلاً… نشخصن الفكرة ونجرَّم عندما نختلف عليها. بعضنا يذوب في تفاصيل الغياب، وبعضنا إن حضر غاب…
اليوم ليس يهديني إلى ذاتي إلا وشوشات الأرض والشجر والمطر وغربتي أو اغترابي.. اليوم أقف مذهولاً من قدرتي على احتمالي واحتمالكم.. من صبَّرنا على البقاء المشبوه.. من أرادنا مختلفين؟!.. من تعرَّى عني وعنكم وأرادنا أن نقتسم معه الفضيحة»؟!..
أخيراً نقول: هل تكتفي بكلِّ هذا الكلام من مبدعٍ فلسطيني-أردني – دمشقي، بل سوري.. نعم سوريٌّ لطالما، كان الأردني الوحيد الذي رافق الوفد الذي ضمَّ 49 شخصية سورية، وذهبوا إلى ميدان التحرير في «مصر» للاحتجاج على تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية..
أيضاً، كان الجريح العربي الوحيد الذي لابدَّ وقبل وأن نختم، من سماعِ قصة نزيفه كرمى الوطن الذي عشقه حدَّ الانتماء إليه قلباً وروحاً وفناً وقولاً:
«ضُربنا في «مصر» ونكِّل بنا من قبل مرتزقة.. سال دمنا، وتعالجنا واحتمينا بالسفارة السورية، وهددونا بحرق السفارة فينا، فأبيتُ إلا أن أبقى مع السوريين الذين عدت معهم يومها إلى سورية وتعالجنا..
أبيت إلا أن أبقى مع سورية. الوطن الذي كنتُ معه منذ بداية أزمته وسأبقى، ورغم اعتذار كلّ الدول التي كنتُ أعملُ فيها بأجر خيالي.. رغم اعتذارها ومواجهتي: «أسفين لا يمكن وجودك معنا بسبب ولائك لسورية»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 20-6-2019
رقم العدد : 17005