استمدت الفنانة التشكيلية هبة البيك، مواضيع لوحاتها، التي عرضتها في المركز الثقافي العربي بكفر سوسة، من العناصر المحببة لدى الأطفال (مثل القطط والطيور والفراشات والأرانب الزهور وغيرها) ولقد حملت لوحاتها ثمرة وخلاصة عملها في مجال ديكورات رياض الأطفال. وحققت هدفها في الوصول إلى صياغة واقعية، وبعين مدققة في التفاصيل, المعبرة عن هواجسها الحكائية, القريبة من عواطف وأحاسيس وأحلام الصغار في مرحلتهم التعبيرية. و بدت في أعمالها أكثر اتجاهاً نحو الواقعية الفوتوغرافية، أي انها تسعى لمنافسة معطيات الصورة الضوئية، وهذا ما يسمى في الغرب بالفن الجماهيري «بوب آرت» حتى أنها في رسم القطط حصراً حققت أقصى درجات الواقعية.
لغة عامة
وتبدو متحكمة في الرسم والتلوين، كما تبدو خلفيات بعض لوحاتها مستمدة من الايقاعات الشعرية لألوان الطبيعة المحلية، التي وجدتها في الاماكن الحميمية القادمة من تأملاتها أو من مخزون ذاكرتها البصرية. ومن هذا المنطلق تعتمد في تشكيلها على اللوحة الفنية المعبرة عن روح انتمائها الى الصياغة السورية الواقعية, وهي تقدم لوحات متوسطة وكبيرة في قياساتها وتحمل ثمرة وخلاصة عملها في التشكيل الذي يهدف إلى تنشئة البراعم، رغم أنها في بعض لوحات الطبيعة تظهر بعض العفوية (كخلفية لوحة الطفل الذي يمتطي الحصان) وتبرز قدرتها على تخطي أفقية الامتداد التصويري الواقعي التسجيلي، وتصل أحياناً الى حدود تخيل المشهد, وهذا يعني إنها قادرة على إضفاء الملامح الذاتية والإيقاعات اللونية واظهارها كأنغام او كألحان بصرية مقروءة بالعين في مساحة السطح التصويري.
هكذا يشكل المنظر الطبيعي في بعض لوحاتها مدخلاً لتجسيد المشاهد الطفولية واقتناص الشاعرية اللونية والذهاب أبعد من الإشارات أو المظاهر الخارجية, وبالتالي الوصول إلى الصياغة الفنية في اتجاهاتها المنطلقة من الواقع.
وهي حين تجسد العناصر الطفولية والمشاهد الواقعية في مظاهرها الخارجية، فإنها تتجاوز أشكالية القطيعة القائمة بين الفن التشكيلي والجمهور، في الوقت الذي نعلم فيه أن الإبداع الفني التشكيلي الحديث نخبوي أولاً وأخيراً، بمعنى أن اللوحة الفنية الحديثة اللاواقعية أثبتت فشلها في مخاطبة الإنسان العربي، وفي هذا السياق يمكن القول إنها تتفاعل مع حركة الأطفال والعناصر والمشاهد، بصياغة تصويرية مفهومة من الناس جميعاً، من مختلف الأعمار والشرائح والمستويات العلمية والثقافية, على الرغم من اتجاهها أحياناً من العفوية اللونية والرسم، ضمن القواعد المتبعة في المحترفات الواقعية.
شاعرية لونية
وفي خلفيات بعض لوحاتها تتجه بشكل واضح لإضفاء اللمسات اللونية العفوية, وتوازن بين جمالية البقاء عند ضفاف الواقعية، المبنية على قواعد وأسس رصينة، وتضفي على بعض لوحاتها شيئاً من العفوية الملطفة، فهي لا تزال ترسم بقواعد واقعية، وترصد عناصر المشهد بعقلانية مركزة، مع إضفاء بعض اللمسات الضوئية في الخلفيات، على طريقة الصور الملتقطة بطريقة «الفلو» وكل ذلك يحقق عناصر واهداف اللوحة الواقعية التي تجسدها بحب وعشق مزمن.
هكذا تطرح لوحاتها جماليات التعامل مع الأطفال والطيور والحيوانات الأليفة والمشاهد الأخرى, واللوحة الواقعية التي تقدمها، رغم دقتها القصوى، تحمل فسحة رومانسية قادرة على إغراء المشاهدين, حيث نجدها تبحث عن شاعرية في التعبير, وشاعرية في المكان, وشاعرية في الوجوه, بالإضافة إلى شاعرية المشهد الطبيعي, وفي إطار هذه الشاعرية البصرية, تعمل على تقديم توليفتها الفنية الجمالية، وهذا ما يجعلها ساعية إلى التقاط إيقاعات الضوء المتدرج نحو العتمة، بحيث تتحول لوحاتها إلى ايقاعات بصرية وحركات إيقاعية في آن واحد.
واللافت أن اللوحة الواقعية, بدأت تعود وتأخذ موقعها وحضورها في بعض المعارض, لأسباب معروفة, أبرزها عزوف معظم الناس, عن الأعمال المنفذة بالتقنيات والأساليب الفنية الحديثة، القادمة من تأملات المعارض التي أطلقتها صالونات عواصم ومدن الفن الكبرى في القرن العشرين، وعدم قدرتهم على استيعاب جمالياتها, وسعيهم وراء المواضيع التقريرية المفهومة والواضحة والمباشرة.
أبعاد تربوية
وعلى هذا تظهر عناصرها الطفولية, كرحلة حلم في فضاء المشهد الطبيعي, لأنها تعكس التفاصيل وعناصر التناسب الحيوية والاتقان والحركات الخفية والعلنية للضوء، الذي يتوازى مع الطرب الإيقاعي البصري.
وهذا يعني أنها تبتعد في لوحاتها الواقعية عن الاسلوب التصويري الذي يجمد الحركة, وتبرز إيقاعات الأشكال المضيئة داخل لونية خافتة أو معتمة. ولم تكتف هبة البيك بتصوير الأجواء الطفولية, بل آمنت بأن الفن هو الطريق المفتوح، الذي يحقق رغبتها في تجاوز موضوعاتها الى فضاءات ورحاب تشكيلية وتقنية أوسع وأرحب، فرسمت الطبيعة الخلوية باحثة عن الغرابة والخيال وشاعرية الحلم.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الأربعاء 10-7-2019
رقم العدد : 17020