من متحفه المواجه لشاطئِ بحرِ مدينة «طرطوس» حيث أودع ذاكرته الإبداعية.. من هذا المتحف، يرنو النحات والفنان التشكيلي «حسن عزيز محمد» إلى المدى البعيدِ مستحضراً بأناملهِ كلّ مالدى سوريّته من جمالٍ وحياةٍ وأصالةٍ وفنونٍ حضارية فينيقية..
يستحضرُ كلّ ذلك في مشغله الذي هو منزله. المنزلُ الذي يواجه فيه، عالم من الجهل والحقد والظلام والإجرام الذي سعى لقتلِ الحياة في وطنه.
أيضا».. الذي يحاور فيه منحوتاته وتحاوره، معلناً لكلِّ من يلتقيه أو يزوره: «أنا جارُ البحرِ، عشتُ بجانبه وعشقته»ّ.
نعم.. هو عاشق البحر مثلما تاريخ الساحل السوري وذاكرته.. نتأمل في هذا العشق ونسأله عما إذا كان السبب فيما أجاب عنه بكلمته:
•• لقد لعب قرب مسكني ومشغلي من كورنيش «طرطوس» دوراً كبيراً في اتجاهي إلى توثيق تاريخنا. ساعدني على ذلك، هذا البحر العظيم وحجر شاطئه الرملي الذي بنى به الفينيقيون مدنهم وقلاعهم.
السبب الأهم، رغبتي بأن أذكِّر السوريين والعالم بعظمة الفينيقيين، وهو ما دفعني للبحثِ عن أعظم آثارهم ونحتها. تلك الآثار العظيمة التي نحتُّ منها، واجهة طرطوس القديمة «صالة المعارض الفنية» والطاحونة «البرج الدفاعي لمدينة طرطوس القديمة بالجهة الجنوبية الغربية».. أيضاً، كرسي الملك «معبد الإله ملكارت» والمغازل «مدافن عازار» وغليون «بايت فينيقي»، وما زلت أبحث عن المزيد مما أوثِّقه من آثار هذا الساحل..
• هي منحوتات رغم صلابتها، لابدَّ لمن يتأمَّلها من أن يتساءل وهو يتلمس جمال وليونة منطقها: كيف لهذا الفنان محاورة الحجارة وجعلها تنطق إبداعاً يعجز الكثير من البشر عن النطق به.. إنه تساؤلنا أيضاً، وجوابه:
•• عندما يعشق الفنان أدواته لابدَّ أن تكون المواد طوع يديه، وعندما يبثّها من نبضه وروحه، لابدَّ أن تحيا وتنبض وتحاور كينونتها فيه..
نعم، على الفنان أن يعشق مواده وأدواته، ولقد قمتُ بالنحتِ على خامات كثيرة، كالرخام والحجر الكلسي والبحري أو النهري والرملي. أيضاً، الغرانيت والبازلت وكل أنواع الخشب، وهي مواد مثلما أعرف كيف أعشقها، أعرف كيف أُنطقها.
• هكذا يحاكي هذا الفنان أعماله التي ورغم أنه أبدع في منحها قساوة وصلابة «حجارة البازلت والصوان والرخام» ومرونة «الحجر البحري» إلا أنه أبدع أكثر في تطويعها بالحجر الرملي، وليس فقط لأنه جاره، بل لأنه وحسب ماقاله:
•• لأن أكثر ما أحرص عليه تقديم منحوتات تعبر عن حضارة وعراقة التراث والساحل السوري، اعتمدت ورغم عشقي لكلِّ خاماتي، على الحجر الرملي، وليس فقط بسبب توفره في مدينتي الغنية بكلِّ أنواع الخامات، بل لأنه أساسها. ذلك أن الفينيقيين كانوا قد استخدموه في بنائها وبناء حضارتها، وهو مايجعله بالنسبة لي ذاكرة فيها من المخزون الحضاري السوري، مايستحقُ العودة واستحضاره بأعمالٍ تحكي عما فيه من عتيق الجمال المخفي.
• لاشك أنه وبهذه المحاكاة، يترجم مشاعر أبناء شعبه ويستعيد حضارته.. الشعب الذي داهمتهُ الأحزان بسبب القتل والخراب الذي طالَ حتى الشجر والحجر في وطنه. يترجم ذلك، بمنحوتاتٍ تروي حكايا سوريته، ومنها «أسد اللات» وحكايته:
•• «أسد اللات» هو تمثال وُجدَ في مدينة تدمر قبل القرن الأول الميلادي، وكان ارتفاعه 3.5 م، وعرضه نصف متر، ووزنه 15 طنا، وكانت «الربة اللات» قد أقامته بأموالها على مدخل معبدها، فأقيم لها تمثال ووضع على مدخل باب متحف مدينة تدمر. لكن، قام الإرهابيون عام 2015 بتدميره.
لم يكن هذا وحده ما دفعني لاختيار تمثال «أسد اللات» الذي هو على شكل أسد وبين قائمتيه غزال، والذي كتب عليه باللغة التدمرية «من دخل المعبد فهو آمن» وهو ماجعل القبائل تلجأ إليه لتحتمي من أعدائها.. لم يكن هذا وحده مادفعني لاختياره، بل لأنه كان أيضاً، رمز المحبة والتسامح والأخوة، وهكذا هي سوريةعبر التاريخ ومنذ آلاف السنين.
• نتوقف.. نتأمل في منحوتاته التي منها أيضاً النافرة والخشبية.. نبدي له شعورنا بأنها جميعها رائعة، ونسأله عما إذا كان هناك منحوتة يميّزها، ولها لديه خصوصية؟.
•• جميع منحوتاتي مميزة لدي ولها خصوصية.. لكن، ولأن مامرّت به سورية يجعل من المهمِّ أن تحتفظ حتى أحجارها بذاكرة آلامها، أشعر بتميز «قيامة سوريةمن تحت الرماد» وقد نحتُّها على الرخام الإيطالي.
لقد جعلتُ أسفل هذه المنحوتة، على شكل نصف سفينة فينيقية، وأعلى السفينة طائر الفينيق. على رأس هذا الطائر وضعت خوذة الجندي السوري الشريف، ونحتُّ على الخوذة إكليل من غارِ النصر. إنه طائر الفينيق الذي يقوم دوماً من الرماد ويكون أقوى، والذي يحلق في السماء دوماً وينتصر على أعدائه.
أفتخر بهذه المنحوتة، وبمنحوتة الشيخ المجاهد «خليل الخطيب» في بانوراما «الشيخ بدر» التي شاركت فيها مع ثمانية نحاتين، استغرق عملي وإياهم أكثر من ستة أشهر، حيث تم نحت جرف صخري بطول 30 مترا وارتفاع من 5 إلى 6 امتار.. أفتخر بهذا العمل، لأنه سيبقى لآلاف السنين شاهداً كما آثار أجدادنا القدماء، على إرثنا الحضاري الأثري العميق.
تجوبُ في فضاءِ إبداع هذا الفنان الحضاري، فتتنفس المزيد من هواءِ وطنكَ السوري.. تزفرهُ وتعيد تنفُّسه مفتخراً ومعلناً لكلِّ العالم الذي استفادَ من حضارته، بأنه لايزال فيه عظماءٌ كثُر جداً، ومنهم هذا الفنان الذي نختم بلمحة فيها من سيرته: «نحَّات وفنان تشكيلي، عضو اتحاد الفنانين التشكيليين فرع «طرطوس»، ومشارك دائم في معارض فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في «طرطوس» و«دمشق».. لديه العديد من المعارض الفردية والجماعية، وقد شارك بالعديد من المهرجانات الفنية والملتقيات النحتية.. اقتُنيت أعماله في داخل سورية وخارجها»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 11-7-2019
رقم العدد : 17021