– مشت «حياة» في الدرب الطويل في سوق الحميدية، كل شيء طبيعي، كل شيء يشي بالحياة العادية المألوفة، أصوات الناس والباعة، بائع العرقسوس، المتزاحمون على بوابة البوظة الأشهر في العاصمة العريقة، جلبة المارة، أصوات الموسيقا والجوالات المنبعثة من هنا وهناك..
كل هذا لم يمنعها من الشعور بالبهجة والسعادة وممارسة الفرح، وهي تنتعل حزنها وتعتمر ألمها، منقلة خطواتها بفرح ذات اليمين وذات الشمال، دون أن تصطدم بأحد المارة… حقا كل شيء طبيعي، دمشقي، ضاج بالحياة، ماعدا حزن حجارتها العتيقة، وهي تعانق أصوات اليمام المتكاثر قرب أضرحة الأولياء، والمآذن، والقباب، والتكايا، والأسوار والأبواب والبوابات، تحكي أسطورة حزن الرب على ما حل بهذا البلد الأمين.
في المقهى ذي الواجهة الزجاجية، كان ثمة حزن يصادر فرحها برائحة القهوة المشتهاة، المنبعثة من فنجان واحد وحيد، بوحشة لا سابق لها، فردت أوراقها، وأخذت تسترجع نفسها مما حولها، وتستجمع ذاكرتها وبدأت الكتابة.
جملة جملتان… لم تشعر بالوقت، وإذا بالرجل العجوز يذكرها بموعد إغلاق المقهى، غادرت أوراقها، انتبهت لفنجان القهوة وهو لايزال على حاله، بارداً موحشاً وحيداً، رشفت القهوة على عجل، لملمت أوراقها ومضت، تسير على غير هدى ولكن كانت ثمة حكاية قد ولدت على الورق. – كل شيء يفضي إلى الموت… بالرغم من كل مظاهر الحياة هذه.. الوقت: دمشق… العام التاسع للحزن… المكان شرفة من فرح مسروق… كان ذلك هو المكان الذي قصدته «حياة»… صحيح أن كل الحارات والأبنية وشرفات الياسمين والنارنج متشابهة، متساوية الحنين، لكن ذلك لم يكن ليخفف من شعورها بفرح غامر، في طيات زمن يترصدها وتترصده من أكثر من عمر، مسروق من الزمان. استوقفتها امرأة خمسينية، لتقول لها كم تشبهين دمشق، شكرتها بامتنان من أخذ جرعة زائدة من الفرح والحنين والبياض، وهي تحتضن فرحاً من توق وشوق ولهفة، أردفت المرأة طلباً بالتبرع لجمعية خيرية تحتضن أناساً تأذوا من الحرب، اعتذرت «حياة» من فرحها، وبصمت مطبق، تابعت طريقها إلى عينين لا تشبهان أحداً سوى «دمشق». – مدهش أنت… كالعطر… تلفني بغلالة من حنين وتمضي.. فأمضي معك نشوانة الروح بعينين من قبل ووجه من حرير روحك التي من ياسمين الشام… يوم لقيتك على مفرق الضوء، أخذت تنثر عليَّ خزمى وجهك الحزين، كان رذاذ الضباب ووجهك المسافر للغياب كأيقونة لمحارب عتيق هما وجهة روحي إليك. كنت ماضية إلى هاوية الحنين لو لم يردعني هواك.. كنت ماضية لحتف روحي، لولا يداك مهدتا سرير السكينة ومطارح الأمان، فأويت إليهما عصفورة بللها تهطال عينيك، لم أعرف للعيون ندى إلا مذ عرفتهما… لم أدر كيف يقرع الحب أزمنتي ، أبواب روحي، ويلج زائراً حائراً غريباً أثيراً إلا بقدومك… كنت أوصدت بوابات الريح كيلا تدهمني رياحك… ترى من سيهش على مساكب الحبق بيدين من غمام، من سيعلم المطر تعويذة السقيا، من سيهب أرضي الخصب، من سيذكرني بيمام دمشق، وبسملة الياسمين في صباحاتها، ورجع تراتيل الدراويش في تكاياها، وتمتمة الفجر في الأرواح المضيئة بالحب إلاك إلاك… – كتبت «حياة» على بوابة القلب.. فصل الختام… « إلى النجمة التي أشرقت، درب طويل جداً… آلاف السنين احتاج الضوء كي يصل إلينا، من الممكن أن تكون انطفأت في الدرب… منذ زمن طويل … في البعد الأزرق … لكن شعاعها الآن يلمع أمام أعيننا، أيقونة النجمات التي ماتت… ها هي تصعد بهدوء في السماء، إنها موجودة قبل أن نراها أمام أعيننا، واليوم نراها وهي غير موجودة… كذلك الحب في زمن الحرب … يغيب في الليل المعتم العميق… « دمشق… الشام… العام العاشر للحرب والفرح والحب.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 12-7-2019
الرقم: 17022