كثيرا ما تقرأ روايات تظن أنها كتبت خارج هذا الواقع , تغرد حبرا وصورا وأشخاصا على أجنحة السراب , لا تنتمي إلى مكان أو زمان , يقولون , ويدعون أنها الحداثة , او ما بعد الحداثة , بمعنى آخر أنهم يهيمون حيث لا طعم ولا لون , فما الرواية إذا لم تكن من لحم ودم , من نبض الناس , تحاكي آمالهم , تروي آلامهم ؟
لن نسهب كثيرا في الحديث عما يمكن أن تكون عليه الرواية فهذا شأن آخر , وله ذووه , ولكن رواية جميلة شدتنا إلى المقارنة بين ما نراه , وبين ما يجب أن يكون , رواية : هارمونيكا مأساة كاهن , للروائي أنطون خليل حداد , الصادرة مؤخرا عن دار التكوين بدمشق , تعيدنا إلى حقل الروايات التي تحفي بالحياة , تنبض بها , تدعو إليها تلقط منها الجمال وتعمل عليه , رواية من نبض الحياة السورية الخلاقة التي أثرت العالم بما قدمته .ا
السوريون وألفة الحياة , اليد الواحدة معا بكل الفصول , حلوها ومرها , صحيح ان الكاتب في مقدمة روايته يقدم بالقول : إنها محض خيال , وإذا تلاقت مع احداث الواقع , فهذا من باب المصادفة , يفعل ذلك , وسنتفق معه أنها محض خيال , لكنها في الواقع صفحة من تاريخ الحبق السوري , قرية وادي الحبق, وكل قرية سورية هي واد من الحبق وقمة من الياسمين , الصباح البارد الذي حمل نبأ أن مختار القرية قد رزق بصبي و كان مختلفا ً القرية التي يعيش فيها الجميع أسرة واحدة , يدا واحدة , مصيرا واحدا , تقيم الأفراح لمختارها مخول الصلب , لأن الله رزقه بصبي بعد سبع بنات , وادي الحبق في جغرافية الرواية ( لايتعدى سكانها الألفي نسمة يشكل المسلمون حوالي الربع والباقي من المسيحيين , تتوسط القرية كنيسة قديمة , تروي الاساطير أن بناءها يعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام وحولت من قلعة قديمة إلى كنيسة في زمن لاحق , وفي الطرف الغربي من القرية ترى مئذنة جامع القرية .
نقاط الاختلاف قليلة في تكوينهما حتى انك لو استبدلت الصليب مكان الهلال لما اختلف شيء من البناء الخارجي , حين رزق المختار بصبي كانت صيحات الفرح واصوات أقدام الشباب والصبايا في حلقة الدبكة تشكل لحنا موسيقيا مألوفا لسامعه …المختار أبو ليلى , صار أبو داوود , داوود الذي تدور وقائع الرواية حوله ومعه , ومع اقرانه من القرية من وادي الحبق السوري إلى لبنان , حيث دراسة اللاهوت بعد ما تعرض له في القرية من بتر رجله نتيجة سقوطه على سكة الحديد , تفاصيل الحياة التي تدهشك ببراءتها , بعفويتها , لكنها رائعة الجمال تظهر عبق الحياة التي لا تعر التلون , إنما تمضي بيضاء , تواجه المصير بروح الجامعة .
وادي الحبق صفحة من مجتمع سوري , ربما قصر الكثيرون في إبراز ما يكنز , لكن هارمونيكا تفعل ذلك , من خلال تشابك سير الأحداث والوقائع يمضي الفتى داوود ليكون علامة فارقة ومعه الأحبة والاهل , تصيبه أو تحل به كوارث , ويدخل لبعض الوقت كهف اليأس والقنوط , لكن الروح السورية , روح الإيمان , وقدرة الفعل والانجاز تعيده إلى ملكوته الإيماني الإنساني , يفقد ابنه في حرب العراق , حين كان الوحش الأميركي يدك المنازل على رؤوس أصحابها , يدور في حلقة العدم , ويقرر الانتقام , نعم يريد الانتقام من الأميركي , ولكن المعجزة التي تحول دون ذلك كله تجعله في لحظة فارقة يعيد إشعال قنديل الروح , ويعود إلى وادي الحبق شمعة تتقد , في تفاصيل الرواية ما يشد ويثري , رحلة من منتصف القرن العشرين إلى نهاياته , تروي الكثير الكثير , وحبقنا يحتاج من يرويه , يحكيه , بالرواية بالكلمة بالفعل , بكل وسائل الإبداع , وهارمونيكا واحدة منها , بغض النظر عن بعض الملاحظات التي قد تكون .
يمن سليمان عباس
التاريخ: الجمعة 12-7-2019
الرقم: 17022