منذ القِدم والإنسان يسعى إلى «الكمال»، باحثاً عن السبل التي تمكنه من بلوغه، وسواء بأقواله أو أفعاله. الأفعال الواعية والأخلاقية والأقوال الحكيمة والفلسفية. تلك التي صدرت عن مفكرين وفلاسفة وإن اختلف كلّ منهم في سعيه، إلى أنهم اتفقوا على الارتقاء بالإنسان وحياته ومجتمعه وفكره..
حتماً، جميعنا يعلم بأن «أفلاطون» اليوناني من هؤلاء الفلاسفة، وبأنه سعى لهذا الكمال بشكلٍ اجتماعي عمَّمه في مدينته الفاضلة. المدينة التي اختلف إنسانها عن إنسان الشاعر والناقد والفيلسوف الألماني «نيتشه» الذي اعتبرهُ «إله نفسه» وعليه السعي لأن يكون كما أراده «زرادشت»: «إنسانٌ أعلى يسمو على الإنسان العادي».
لاشك أنها دعوة يراد منها، اعتماد الإنسان على العقل والارتقاء بطريقة يتجاوز فيها اللامعقول. لكن، هل يمكن ذلك والإنسان في طبيعته، كائنٌ مغلوبٌ على عقله، بشروره وانفعالاته وغرائزه؟…
سؤالٌ يتطلب وبالدرجة الأولى، تحرير الفكر وتوسيع أفقه وصولاً إلى تفوّقه. أي إلى ما أسماه «زرادشت» «تجاوز الذات» وبـ «أن تكون في غدك أحسن منكَ في يومكَ، وأن يكون نسلك متقدمين عليك في كلِّ الصفات، وأن يتفوق جيلهم على جيلك».
بالتأكيد هو تجاوز يحتاج إلى درجة عالية من الأخلاق، بل من الإرادة والفكر اللذين يمكِّنا الإنسان من بلوغِ القمة، وهو مالا يمكن أن يحظى به إلا إنسان استثناني.. إنسان «نيتشه» الذي أراده «خارقا.. خالقا للقيمة، وليس مستهلكا لها، وأخلاقه ليست أخلاق القطيع ولا النخبة من الفلاسفة ورجال الدين، بل أخلاق الإنسان الذي يتمنى بصدق وبكلِّ يقين، التكرار الأبدي للذات، لأنه يرى أن وجوده كامل، وبأنه لايتمنى فقط بل يريد»..
نتوقف لدى هذه الفكرة المعقدة. نفكر لديها قليلاً ثم نعود لنتساءل عما لايمكن الإجابة عليه: هل يوجد عقلٌ استثنائي، في زمن لا إنسان فيه خارقا؟..
سؤالٌ لاأعتقد بأنه يحتاج إلى إجابة، فإن كان الإنسان الخارق لا يتمنى بل يريد، فإن إنسان هذا العصر وهذا الزمن تحديداً، لا يتمنى ولا يسعى ولا يريد..
لا يتمنى لأنه لا يسعى إلى الكمال، ولأن تفكيره بات عبثياً وفوضوياً.. لا يسعى لأنه قيّد فكره بأنانيةِ فعله.. أيضاً لا يريد، لأنه لا يتمنى ولا يسعى إلا ضمن فضائه الضبابي، الهلامي، العبثي، الانعزالي، العدمي..
ببساطة، هو الإنسان ذاته الذي عاود «نيتشه» القول عنه: «سيأتي زمن الإنسان الأكثر حقارة. ذلك الذي لم يعد قادراً على احتقارِ نفسه»..
الإنسان الذي استنكر هذا الفيلسوف أحواله، فتساءل «عندما تكلم زرادشت» وبعد أن استاءَ من أفعاله: «أي إنسان هو هذا؟!.. كتلة متشابكة من الأفاعي لا تجد الراحة فيما بينها، فتتفرق لتبحث عن فريستها في الأرض»..
باختصار، هو الإنسان الهمجي في دونيّته، والذي يرفض أن يخرج من ظلامِ غابته.. يطارد الآخرين لإيذائهم وامتصاص دمائهم.. يحرض على قتلهم أو يقتلهم ويأكل لحومهم..
إذاً، لا يوجد عقل استثنائي في زمنٍ لا إنسان فيه خارقا.. في زمنٍ تحولَّ فيه العقل إلى ما أكَّده قول هذا الفيلسوف الحاذق: «فيما مضى كان العقل إلهاً، ثم تحول إنساناً، وها هو الآن يغدو رعاعاً»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 25-7-2019
رقم العدد : 17033