أن نعملَ على مشروع فكري ثقافي أدبي ينتشلُ الثَّمين من ركام الغث، والذي بات كثيراً في حياتنا الأدبية اليوميَّة، وقد بات الاستسهالُ في الكتابة والنشر بكافة وسائله وصوره، والاستخفاف في تعاطي الشأن الثقافي والفكري والأدبي أهم سماتها، فهذا ما نصبو إليه، وما أنشُدُهُ على المستويين الشخصيِّ والعام، وعليه فإنني أقارب هذه الفعالية، «مهرجان قصيدة النثر» الذي أقامته مؤخراً في طرطوس جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب.
لم يكن الاختلاف المرجو من إقامة فعاليةٍ كهذه، وباسمٍ واضحٍ يستقطبُ للمشاركة فيه فقط الأقلامَ التي لم تكتبْ النص الشعري الموزون، وبشكل أدق التي لم تكتب سوى غير الموزون، «وبشكل أكثرَ دقة التي لم يعرف معظم أصحابها الوزن»، كما لم تكن الغاية المحمودة والهدف النبيل فقط ممن أثار فكرة فعالية كهذه على أنها إضاءة وتصويب يتبعه بالضرورة تنظير لهذا النوع من الكتابة الشعرية: ما لها وما عليها، كما لم يكن ممن تمت دعوتهم للمشاركة على أنهم من يغطون مختلف مدارس وتجارب وصنوف ونصوص مثل هذه الكتابة، بالقدر الذي كان يتوخَّاه المتابع الأديب الحصيف المهتم بكل هذه الأمور مجتمعة، ولكن كيف جرت المجريات وبأي اتجاه وما النتيجة التي تكونت لدينا في النهاية.. أسئلة مشروعة نحتاج للإجابة عنها مقاربة ما حدث من طرف محايد لا يروم سوى وجه الشعر في أي شكل فني كان، ولا يريد عنه بديلاً، وممن حضر جميع الجلسات العلنية والعامة والمناقشات التي كانت تحدث على هامش كل أمسية في هذه الفعالية.
إن حضور مجموعة من الشعراء ممن لم تتقرر مشاركتهم ومن محافظات بعيدة لغرض الحضور والاهتمام كان أمراً لافتاً ومهماً، بقدر ما كان لافتاً أيضاً عدم تواجد الشعراء المشاركين جميعهم، وهم المعنيون بالدرجة الأولى من الندوة وبحثها، حتى أن عدداً منهم من أبناء المحافظة، ومع ذلك لم يحضر إلا يوم مشاركته فقط.
أما مجريات الندوة في اليوم الأول عن قصيدة النثر بجميع محاورها، ومن داخل بهذه المحاور من الأساتذة والأدباء والمختصين، فكان يعتورها أمران: الأمر الأول: عدم اختيار منهجيَّة للندوة ككل وللمحاور كل على حدة لكي تكون موجهة بشكل متناغم باتجاه الغرض الذي أقيمت لأجله، وهو قصيدة النثر، إن الأمر الذي بدا واضحاً بعد انتهاء الندوة هو الخلط في التناول بين نوعي الكتابة الشعرية «الموزون» و»المنثور»، وبين تعريف الشعر ككل والذي كان من باب أولى التأكيد في تعريفه على أنه موجود في كلتا الكتابتين، على اختلاف الشكل الفني وتقنية كل منهما، ونصوص كل منهما، مما خلط في الأذهان بين مفهوم الشعر بشكله الموزون والمنثور من جهة، وبين الحداثة والتقليد في الكتابة الشعرية ككل، فباتت الإشارة بالذكر إلى قصيدة النثر تقترن بالحداثة دون سواها، فتداخلت الحدود وضاعت فكرة الشعرية بين هذه المفاهيم ككل، أيضاً ما يلفت في مشاركي الندوة أن كلاً منهم قد أدى محوره من خلفيته الفكرية أو المعرفية أو البحثية أو التذوقية الخاصة، مع التنويه لأكاديمية بعض المحاور والتي لو أتيح لها الوقت لكانت وافية، وبعضها الآخر خرج خارج السياق ولم تكن مداخلته كما وردت كافية ووافية لتعطي الحجَّة على المحور ومضمونه.
ما كان يجب أن يتم التأكيد عليه ومراراً هو أنَّ الفعالية هذه ليست في إطار احتفاء بنص قصيدة النثر، ولا بتبجيلها فهي في النهاية نص إبداعي ككل أشكال النصوص الإبداعية الأخرى، الأمر الذي استنفر الخصومة الكامنة لدى أنصار الشَّكلَيْن الشِّعريَّين المتطرِّفَين التقليديَّيْن، وهنا حدث كما حذَّرنا الوقوع في فخ الفرز بين كُتَّاب كلِّ من النَّصَّين الشِّعريَّين، الأمر الذي يلفت أكثر، ليس فقط أنَّ التَّحَيُّز لدى مريدي كلا الشكلين لايزال موجوداً، لا بل استنفر وبالعمق وبشكل غير مقصود لدى منظِّمي الفعالية فكرةَ تنحية النَّصِّ العمودي أو المشطور أوالقصيدة التقليدية، على حساب «غرور» من يكتُبُون فقط النَّصَّ المنثور، وهذا كان واضحاً من خلال المشاركة حيث لم يكتفِ بعض المشاركين بوقتٍ، ولم يتقيدوا بعدد النصوص التي قرئت، لدرجة التُّخمة.
القصيدة بالنثر، كما تعرِّفها «سوزان برنار»، وكما بزغت مع جيل الأوائل في مطلع القرن المنصرم، هي نصٌّ إبداعي كما الموزون، بغض النَّظر عن أي تعريف، فالشعر لا يحيطه تعريف، ولا يحدُّهُ قولٌ، ولا يدركُ كنهَهُ إلا من يهزُّهُ من أعماقِ وجدانه ومشاعره وضميره هذا النَّصُّ الشِّعريُّ دون سواه، ليهتف بملء إرادته وروحه وشغافه: «والله هذا شعر»..
أقفُ عند هذا الحد، لتكون لي وقفة أخرى مكمِّلة مع النُّصوصِ المُشاركة وباقي تداعيات هذه الفعالية التي كان بإمكاننا جعلُها أكثرَ أهميةً وغنىً وتوازُناً ونتائج إيجابية ومعرفية، وهذا ماكانَ يجبُ أن يتمَّ توخِّيهِ لدى التفكير في عنوان إشكاليٍّ كهذا لفعالية كهذه… خاصةً وأنَّ غرور الكلماتِ إذا ما راود صاحب النص المبدع الخلاق، أيِّ نَصٍّ، فلا يمكنُ إيقافُهُ عند حدٍّ مما يستجلِبُ مقتلَ الكاتب، أيِّ كاتب..
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 2-8-2019
الرقم: 17040