ثمة مقولة كما يتم تداولها (أينما كنت فلاشيء يروي ظمأك إلا ماء وطنك) كنت مهاجرا, مسافرا, عابرا للقارات, تملك أموال الكون كله, صحيح أن المال في الغربة وطن, والفقر في الوطن غربة, ولكن الأكثر صحة من لاينتمي إلى الوطن, لايعرف أي معنى للقيم, فهو في مهب الريح الصرصر, تتقاذفه من مكان لآخر, تدور به ذات اليمين والشمال, وقد تطويه في كثبان لاتعرف لها قرارا, بلاجذور, بلا هوية, بلا أي انتماء, ومن كان في الهواء كما الأشنيات لاتحميه الأموال والثروات, لا تجعله بلحظة ما يشعر أنه ابن الحياة, ابن الفعل والعطاء, ليس تنظيرا, ولاهو بالقول الغريب عن الحقيقة, فالوطن أكبر من مكان, أعمق من كل ثروات, أغنى من كل الغنى, ولوأن مثالاً بسيطاً عندما تعود إلى بيتك وتضع رأسك على وسادتك وتنام, ألا تشعر أنك في الوطن الأصغر؟
ألا تعيش لحظات الأمان والطمأنينة؟ بالتأكيد: نعم, قد لانعرف المعنى لذلك إلا حين نبدأ الفقد والضياع والتشرد, ونرى ما يجري, اليوم عيد, وفي الناس المسرة والسرور, ولكن هل الجميع على قدم المساواة في ذلك؟ نغالط أنفسنا إذا قلنا إننا نعيش العيد كما نتوق ونشتهي, نكذب إذا قلنا: إننا لم نمتلىء جراحا, بل تكسرت النصال على النصال, وكلما طاب جرح فينا طعنونا بآلاف الجراح, امضى الجراح من ذوي القربى, من كنت تقاسمهم رغيف الخبز, والماء والهواء, من تركت لهم منازلك يوم احتاجوها.
جراح أين منها جراح الكون كله, غدر أين منه أخوة يوسف وما جرى, تسع من العجاف العجاف, ونحن صابرون, صامدون, نعيش فهل التضحية والعطاء, كل يوم في سورية هو فعل عيد تضحية, كل زهرة ونبتة وزيتونة وحقل قمح في وطني, رواها دم جريح أو شهيد, كل بيت مازال شامخا فيه قصص البطولة, وراء صموده القصص, اساطير, نحن لا نحتفي بالعيد اليوم, لا, نحن نعيشه فعلاً يومياً مستمراً, وهل أبرع من العطاء بالروح والدم, شي؟
ماأروع قول بدوي الجبل بمن صنعوا الأعياد:
وغاية الجود أن يسقي
الثرى دمه ويلقى الله ظمآنا..
نعم, هو الشهيد, ووطني شهيد وشاهد, عيد وأعياد, حزن وفرح, موتى وحياة, في وطنية جدلية الحياة كلها, هنا في شوارع الشام العتيقة, على أرصفة حماة, وحمص وشاطيء اللاذقية, والفرات وحقول الحسكة, ودرعا وشموخ الجولان, وبكل حبات التراب ثمة حكايا تروي ألف عيد, لاشيء يكسرنا, لاشيء يجعلنا خارج فعل الكون, اليوم العيد: هو أم الشهيد, وابنته, وأبناؤه, زوجته, دمه الريحان العابق عطراً, العيد, بندقية تحرسنا لننام, تحرسنا لنسهر, لنأكل ونشرب, ونمضي بحيواتنا, العيد الفعل القادر على اجتراح المعجزات, أما أولئك الخانعون حيث الذل والهوان فلهم ما قالته فدوى طوقان:
أختاه، هذا العيد رفَّ.. سناه في روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة.. بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام.. قبعتِ تمثالاً شقيًّا
متهالكاً، يطوي وراء.. جموده ألماً عتيّاً
يرنو إلى اللاشيء.. منسرحاً مع الأفق البعيدْ
أختاه، هذا العيد عيد.. المترفين الهانئِين
عيد الألى بقصورهم.. وبروجهم متنعمين
عيد الألى لا العار حرّكهم.. ولا ذلّ المصيرْ
فكأنهم جثث هناك بلا حياة.. أو شعورْ
أختاه، لا تبكي، فهذا العيد.. عيد الميّتين
اليوم, عيدنا, لأننا في وطننا نعرف معنى التضحية والفداء, نعرف أن زرع اليوم هو حصاد الغد, وسيكون مهماً تأخرالحصاد.
دائرة الثقافة
التاريخ: الأثنين 12-8-2019
رقم العدد : 17048