الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
يتحدث كتاب (مروان مسلماني: ملك الأبيض والأسود) عن المسيرة الفنيّة لهذا الفنان الضوئي التي تحفل مسيرته بعطاءات كثيرة، متقدمة، ورائدة، في هذا الحقل الذي لا زال يشتغل فيه عدد كبير من الفنانين الضوئيين السوريين الطامحين إلى إكمال المسيرة الثرة التي أسس لانطلاقتها الراحل مسلماني وعدد من مجايليه الذين استشعروا مبكراً، أهمية هذا الفن والآفاق الرحبة التي تنتظره، سيّما بعد التطور المذهل الذي طاول وسائله وأدواته وتقاناته، واقتحامه مجالات عديدة في الحياة الثقافيّة والعلميّة والإعلاميّة المعاصرة.
ساهم بتأليف الكتاب، مجموعة من الكتاب السوريين منهم: مأمون عبد الكريم، جورج نحاس، خالد أسعد، سهام ترجمان، شوقي المعري، طالب قاضي أمين، علي القيم، محمود شاهين.
رائد فن التصوير
كان مروان مسلماني أحد أبرز رواد فن التصوير الضوئي في سوريّة. أدار محترف فن التصوير الضوئي في المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق ما بين عامي 1958 و1996. أنجز خلالها آلاف الصور الاحترافيّة العالية القيمة الفنيّة والدلاليّة، تناول من خلالها، آثار سوريّة ومناظرها الطبيعيّة، وعمارتها القديمة، وإنسانها الشعبي الطيب، كما قدم تجارب خاصة، اشتغل من خلالها، على تقانات متطورة، حاول من خلالها التعبير عن هواجس الإنسان المعاصر، وله تجربة لافتة مع شيخ النحاتين السوريين (سعيد مخلوف) عندما قام النحات مخلوف، بتشكيل كائنات أسطوريّة، من عظام السمك، بحجوم صغيرة، حوّلتها عدسة الفنان مسلماني الخبيرة والموهوبة، إلى لوحات ضوئيّة غاية في الإثارة والدهشة.
انضوت أعمال الفنان مسلماني في معارض عديدة، تجولت في المحافظات السوريّة وعواصم ومدن عالميّة كثيرة، كما أخذت طريقها إلى كراسات وأدلة وكتب وضعت بأكثر من لغة، فكانت، بمستواها الفنيّ العالي، ومضامينها المُجسدِة للحضارة السوريّة الرفيعة، خير سفير عرّف العالم على هذه الحضارة، وما كان هذا الأمر ليتم، بالشكل الصحيح والسليم، بدون وجود عين خبيرة خلف العدسة التي صوّرت معالم هذه الحضارة، تدعمها موهبة حقيقيّة، بلورتها وأنضجتها، التجربة العمليّة، والاطلاعات الواسعة والدائمة، على ما تفرزه محترفات التصوير الضوئي العالميّة، من إنجازات متقدمة ومتطورة حققها هذا الفن المجتهد.
حاول الكتاب الإحاطة بالإنجازات الهامة للفنان مسلماني في حقل فن التصوير الضوئي التي انضوى بعضها في معارض تخصصيّة، أخذت عناوينها من الحضارة السوريّة، وبعضها الآخر، في معارض خاصة كمعرضي (خلجات) و(كائنات أسطوريّة). يُضاف إلى ذلك، الكتب والكراسات الكثيرة، التي احتوت على هذه الإنجازات، مشفوعة بالمعلومة الموثّقة حول ملامح حضارتنا السوريّة العريقة.
إنجازات عالمية
من إنجازات الفنان الراحل على سبيل المثال: المعرض المتميز الذي أقامه بمناسبة العام الدولي للمرأة في صالة متحف دمشق الوطني مطلع شهر تموز 1975 بعنوان (المرأة في الآثار السوريّة القديمة) رصد من خلاله عدداً من النساء السوريات المعروفات في التاريخ القديم، مأخوذة عن التماثيل واللوحات الجداريّة المكتشفة والموجودة في المتاحف السوريّة.
وبدعوة من الجمعية الفرنسيّة لرواد التصوير الضوئي، أقام خلال شهر كانون الأول 1975، معرضاً في صالة عرض الجمعية بباريس دعاه (خلجات) ضمنه 150 لوحة ضوئيّة نفذها في مختبره، بصيغة قربتها من عالم (الغرافيك) المعاصر، أو فن خداع البصر (بوب ـ آرت) وزع فيها اللون الأبيض والأسود، ضمن حركات مدروسة في تواترها وما تشكله من مفردات وعناصر بصريّة، تقود المتلقي إلى أكثر من معنى. وفي العام التالي، أقام معرضاً حمل عنوان (التصوير الضوئي بين الانطباعيّة والتجريد) ضمّنه تجارب ضوئيّة منفذة بتقانات عدة، جمع فيها بين التشكيل الكلاسيكي والتجريدي وبين التجارب المخبريّة التي حملها معرضه (خلجات). في هذه الفترة، فازت لوحته الضوئيّة (ساعدوا الطفولة) بالجائزة الأولى في المسابقة الفنيّة التي أجرتها هيئة الأمم المتحدة، في نطاق الدعوة لإنقاذ الطفولة ومساعدتها، وقد شارك في هذه المسابقة عدد كبير من الفنانين الضوئيين العالميين، اختير من أعمالهم ثلاث صور، جاءت في طليعتها صورة الفنان مسلماني التي جمعت بين التعبير البليغ والتشكيل الفني الحديث، وقد قامت هيئة الأمم المتحدة بتنفيذ الصور الثلاث ووزعتها كملصقات على جميع دول العالم.
مفردات غنية
استمرت مسيرة الفنان مسلماني ما يربو على نصف قرن من الزمن، وثّق خلالها معظم الأوابد الأثريّة السوريّة، بتفاصيلها ومفرداتها الكثيرة والغنية، إضافة إلى تجارب خاصة، اشتغل من خلالها على علاقة فن التصوير الضوئي بالفن التشكيلي، يدفعه إلى ذلك هاجس سكن وجدان المصور الضوئي، منذ تم اختراع (الكاميرا) هو مقاربة الصورة الضوئيّة الفنيّة للمنجز الفني التشكيلي، وفي هذا الجانب تحديداً، تفرد مسلماني الذي تملك باقتدار الوسائل التي اشتغل عليها، بدءاً من اختيار موضوع الصورة، وزاوية أخذها، وكيفيّة إدارة العدسة، وانتهاءً بمراحل إنجازها في المختبر، واختيار قطعها المناسب، لتتكامل مقوماتها البصريّة والدلاليّة والجماليّة والتعبيريّة، مميطةً اللثام عن لقطة ضوئيّة مدهشة، تتماهى إلى حد بعيد بالأثر الفني التشكيلي.
ترك مروان مسلماني (حسب سهام ترجمان) أربعة ملايين صورة صغيرة وكبيرة، سافرت إلى عواصم العالم شرقاً وغرباً، لتعرض لسكان الكرة الأرضيّة عظمة الحضارة السوريّة المتنوعة، التي تركها الإنسان السوري الأول منذ أكثر من عشرة آلاف سنة في حضارة ماري على الفرات العظيم، وفي حضارة أوغاريت على الساحل السوري، وفي حضارة إيبلا وسط سوريّة، وفي حضارة مملكة يمحاض- حلب شمالي سوريّة. لم يترك حجراً ولا تمثالاً، ولا ختماً اسطوانياً، لا قبراً، ولا معبداً، لا أرضاً فسيفسائيّة في تدمر أو في السويداء إلا ورصده وثبّته وقدمه للإنسان في المستقبل. فالحضارات السوريّة ملك للإنسانيّة، وقد تمكنت عدسة مروان العبقريّة من أن تحافظ على صورة الآثار السوريّة التي تجعل من سوريّة متحفاً كبيراً ثريّاً.
يرى سعد فنصة بأن مروان مسلماني كرّس جلَّ عمره خلف آلة التصوير مصوّراً وموثّقاً. قضى أربعين عاماً في متحف دمشق الوطني مصوّراً آثارياً، يلتقط التفاصيل، وينتقي أروع الصور التي أخذت طريقها إلى العديد من الكتب، وهو أول رئيس لمجلس إدارة نادي فن التصوير الضوئي عند تأسيسه. لقد أسهمت تجربته الطويلة في خلق مساحة عريضة لفن التصوير الضوئي، كفن له شخصيته الخاصة، بل المستقلة، وهو من أوائل الفنانين الذين ألحقوا هذا الفن بالتشكيل الإبداعي، بعيداً عن الحرفة، وقد تميّز بنشاطه الكثيف والمتقن في تصوير وتوثيق الأوابد الأثريّة بحيث تعد أعماله اليوم مرجعاً وأرشيفاً متكاملاً لكل دارس وباحث في العالم.
تعلقت روح مروان مسلماني (حسب ثناء أرناؤوط) بالشام، فعكست عدسته واقع عشقه، وتؤكد بأنه محظوظ من صوّره مروان في حياته من الأدباء والفنانين والشعراء، بل حتى من الناس العاديين. كان مسالماً لدرجة أنه تسامح حتى ممن آذاه وجرح شعوره. تعرفت أرناؤوط (التي تعمل في نفس الحقل) إلى مسلماني في مرسمه بالشعلان خلف حديقة السبكي. لم يكن هذا المكان مرسماً فقط، بل كان بيت الأصدقاء والمحبين، بيت الفن والمحبة والأدب، لا يمضي يوم إلا والبيت ممتلئ بالزائرين الذين يذهبون إليه بشغف لينهلوا من ثقافته وفنه، وعندما انتقل مرسمه إلى كفر بطنا بريف دمشق، كان يستقبل هناك الفنانين الشباب من كل سوريّة. كانوا يريدون الاطمئنان عليه، والتواصل معه، والنهل من حديثه الذي يعج دوماً بالتاريخ والآثار. اهتم مروان بالتصوير بالأبيض والأسود وأبدع فيه حتى جعله مشوار دربه الذي لا يغادره.
لم يكن مروان مسلماني (حسب محمد خالد حمودة) موهوباً فحسب، بل هو واحد من أهم أعلام فن التصوير الضوئي العلمي والأرشيفي القائم على مادة هي نتاج وخلاصة الإبداع الإنساني ألا وهي الآثار، وسوف يمر وقت ليس بالقصير حتى يُدرك أي دارس لفنه وعبقريته في فن التصوير الضوئي، أنه كان أمام عملاق حوّل الصورة الضوئيّة من مجرد نسخ للواقع، إلى شاهد على عمق الحضارة الإنسانيّة. كان خير سفير لبلاده في الأرض، وسيذكره كل حجر وكل ذرة تراب مر من فوقها، فهو لم يبخس الوطن الذي أنجبه من رحمه، فكان لزاماً وحقاً له الخلود فيه.
التاريخ: الثلاثاء20-8-2019
رقم العدد : 17051