منذ أن تعرفت على الثعابين، منذ طفولتي الأولى آنذاك حين رافقت والدي إلى بستانه الصغير، منذ ذلك الحين وأنا أتعجب للبشر!..
في البرية لم يُثرْ دهشتي شيء، مثل الثعابين، التي تعيش مع بعضها البعض، وربما تشكل فيما بينها مستعمرات تتعايش فيها، لكن أحداً منها لا يلدغ بعضها بعضاً، رغم أن معظمها يمتلك أنياباً سامة؟!
وقد لازمني هذا التساؤل منذ صغري، حتى كبرت وشُغفت بعلم (الإثولوجي) الذي يدرس سلوك الحيوان، عندئذٍ وجدت أجوبة على تساؤلاتي القديمة، وأسئلتي الطفولية.. وأدركت أن سلوك الحيوانات حقيقة عامة، لا تكاد تشوبها إلا استثناءات شاذة نادرة الحدوث..
وهذه الحقيقة تقول إن الحيوانات كلها على اختلاف أنواعها وأصنافها وأشكالها وحياتها، لا يمكن أن تقتل بني جنسها أبداً.. حتى وهي تتصارع من أجل الحياة والطعام أو على مناطق النفوذ، أو عندما تتنافس في (صراعات) التناسل لا تقتل بعضها، بل ينتهي صراعها وتصارعها بحركات رمزية تعلن عن انسحاب الضعيف منها أمام القوي، ولو الى حين.
فالذئب المستسلم يتدحرج على ظهره، والقرد المغلوب يشيح بنظره بعيداً، وعلى الفور، ومن توِّه يتوقف الطرف المهاجم!
أما الثعابين، فإنها ترقص!..
وفي المكسيك التي يهوى أهلها مصارعة الثعابين، يدفعون ثعابينهم لتتواجه، وتبرق هجمات خاطفة من التراشق بالرؤوس الصغيرة، لكنها أبداً لا تنتهي باللدغ القاتل، وعندما تتقابل الثعابين المتصارعة، يزن كل ثعبان قوة خصمه، ويرقص الأضعف رقصة يحرص فيها أن يكشف بطنه لغريمه، فيتجاوب معها الغريم بالرقص، ثم يهبط المغلوب ويزحف متراجعاً إلى الخلف!..
وعندما كبرت الآن، أصبحت أحترم الثعابين!..
ورغم أن خوفي منها ظلَّ قائماً منذ أيام طفولتي، لاسيما عندما كنت أمشي وحدي في البرية..
الآن، ولكي أحسم هذه الازدواجية، قمت بزيارة هاوٍ في صيد الثعابين وتربيتها، وهو رجل ريفي أميٌّ بالغ الحس بلغ من العمر عتياً..
عنده، وفي مملكته التي يعيش فيها عشرات الثعابين، أتاح لي الرجل فرصة الملامسة الآمنة للثعابين!..
لم أنسَ، بعد قشعريرة اللمسات الأولى، وذلك التمسيد البديع لانسياب جسم الأفاعي، حتى تلك الكبيرة المرعبة منها.. وقد حملت إحداها على كتفي وبين ذراعي نحو عشر دقائق، أحتاج الآن لمزيد من الوقت لوصف شعوري في العشر دقائق تلك.. لكني كنت خلالها، استحضر قصة الكاتب «وليم سارويان»، التي تتغزل بثعبان يتدفأ على عشب الحديقة بأشعة شمسٍ وانيةٍ في نهار شتوي..
وكانت تلك القصة من أحب قصص الأدب العالمي إلى قلبي..
الثعابين لا تقتل بني جنسها، كما هو حال معظم المخلوقات في الأرض..
أما الإنسان فهو المخلوق الذي يقتل بني جنسه بامتياز..
يقتل الإنسان أخاه بكل الأشكال والألوان.. وإذا كانت مواجهات الخصوم من بني البشر تبرر القتل وتمنطقه بمقولة إنني إن لم أقتلك لقتلتني!..
وإذا كانت هذه حجة ومنطق الخصوم المسلحين من بني البشر، فما هو منطق ومبرر قتل العزل من قبل بني جنسهم؟!
وسواء كان هذا السلاح فؤوس المسعورين في مذابح الإرهاب التي شهدتها سورية على أيدي داعش وأخواتها، وشهدتها وتشهدها فلسطين وأرض فلسطين على أيدي إرهابيي الصهيونية حيث يستخدم فيها أولئك الوحوش البشرية كل أنواع الأسلحة، وهي لاتزال تلطخ وجه البشرية بعمليات إبادة للفلسطينيين بتواطؤ مشهود ومنحط مع من يدعون التحضّر في عالمنا..
إن الإرهاب.. وأهله هم.. من أصل وفصل واحد!.. إنهم من أسرة واحدة..
إنهم وجوه متعددة وحسب، لشيطان بشري واحد، لابدّ وأنه ينفي عن ضحاياه صفة البشرية ليسمح ويُتيح لنفسه دماءهم..
وأياً كانت ذرائع الإرهاب والجريمة والقتل فإنها مستوى من مرتبة الجحود بقدرة الخلق التي سوّت البشر بشراً..
ترى.. هل أنا على خطأ في احترامي للثعابين!..
عبد المعين زيتون
التاريخ: الجمعة 23-8-2019
الرقم: 17054