الخذلان

 الملحق الثقافي:نبوغ أسعد:

لم يكن التعب الذي يحاصرني أقل ضراوة من تلك الظروف التي تحيط بي من كل جانب، وتسيج قلبي بأسلاك من وهن.
حملت أكياس خضاري الثقيلة، ومشيت مسافة طويلة بين الحواري، ومع كل خطوة يزداد ألم التهاب الكليتين المزمن، الذي يشتد بين الحين والآخر حتى وصلت باب المبنى، والعرق يتصبب من جسدي المرتعش جراء نوبات الألم التي تمزق خاصرتي.
سألني أحد الجيران وقد بدا التعب واضحاً عليّ، «ما بك يا أم مروان يبدو عليك المرض والتعب، هات عنك هذه الأكياس»، وأوصلها إلى باب منزلي ثم قال: أين أولادك ما شاء الله إنهم كثر؟ قلت «لعلهم نيام». قال مستغرباً: «ألهذا الوقت من الظهيرة ينامون؟». شعرت بالإحراج والخيبة، وتمالكت نفسي أمامه، فوضع الأكياس، وقفل راجعاً بعد أن شكرته.
راحت دموعي تنساب بعفوية. وحده البكاء يخفف عني حمولة نفسي المثقلة بأعباء الدنيا، ويغسل قلبي من همّ السنين.
آه يا حسرتي ما أشد تعاستي بأولادي الذين أفنيت عمري وشبابي في تربيتهم! وها أنذا أتجاوز الخمسين من عمري، ولم أر منهم واحداً يقف إلى جانبي ليكون سنداً لي في كبري. حاولت أن أصنع منهم رجالاً يعتمد عليهم في زحمة الحياة التي نسيت فيها أنني أنثى من لحم ودم ومشاعر، ولها حق على نفسها التي هدرت تحت أقدام الأولاد.
استيقظ ولدي الأوسط رعد على قرع جرس الباب، وكعادته راح يرغي ويزبد وأنا في أتعس حالاتي، وازداد في كلامه اللاذع عندما علم بأنني لم أجلب له بعضاً من الشاي، فقلت له: «إنني متعبة، فلتذهب أنت وتشتريها»، فصرخ في وجهي موبخاً إياي قائلاً: «لم تنجبون أولاداً إذا كنتم غير قادرين على القيام بواجباتكم نحوهم، أم أنكم تتناسون في ساعات الصفا أنه سيكون هناك أولاد ومسؤوليات». صرخت بوجهه لشدة وقاحته وقلة أدبه ورفعت يدي كي أصفعه، فأمسكها بقوة ودفعني إلى الخلف. بكيت وبكى قلبي ألما وهو غاضب عليه.
إن ما خلفته هذه الأزمة من تهجير وتشريد وضياع فكري وتشتت جعلنا نخاف عليهم وننصاع لطلباتهم مهما كانت صعبة، حتى ازدادوا بنا طمعاً، خاصة عندما دخل الإنترنت إلى حياتهم بهذا التدفق المشوه لكل أفكارهم وبث النزاعات والخلافات الأخلاقية وزرع الفتن ونشر الفضائح التي صارت من ضروريات شبابنا على ملفات جوالاتهم، كل هذه الأشياء التي سببت في ضياع الأجيال وجعلهم يرمون وراء ظهورهم المبادئ والقيم، وأهمها احترام الأبوين.
مضى النهار ثقيل الخطى ليسلم لليل أجنحة ثقالاً، وأنا لازلت أبكي لتحطمي أمام ذاتي ولخذلاني بأولادي، حتى كدت أنسى ألم خاصرتي. ما أسهل الوجع الجسدي أمام عظمة الوجع النفسي الذي لا يستطيع المرء أن يبوح به وخاصة إذا كان مصدره من بيئته وأولاده، وأصعب شعور يراود المرء بأن حياته انقضت أمام من لا يقدر هدرها.
عاد زوجي من عمله في وقت متأخر، وكان يعاني نفس معاناتي، فكم من الشباب والشابات ضيعتهم المغريات فجربوا كل ما كان ممنوعاً وراحوا يقلدون ما يشاهدونه على الإنترنت.
سألني: «يبدو أنك اصطدمت مع أحدهم»، فقلت: «بل أنا متعبة». وحاولت أن أخفي آلامي التي تشبه آلامه، أصارع ذاتي والقلب يبكي آلاماً لا يشفيها طبيب.
بدأ الليل زحفه نحو غرفتي الصغيرة ليكللها بظلامه الدامس، فرحت أمدد جسدي المتعب ما بين الفراش والوسادة لعل ألمي يستكين، آه أين أنت أيها النعاس، أشتهي نوماً عميقاً وليته يطول ولا أستيقظ بعده.
نظرت إلى زوجي. بدأ يستسلم للنوم من شدة التعب والإرهاق، فهو رجل مكافح كباقي أبناء الوطن الشرفاء.
عدت أناجي النعاس علّه يدق باب فكري المتوقد بنار العذاب، ورحت أتقلب يميناً وشمالاً، شعرت بثقل فوق أجفاني المثخنة من كثرة البكاء وعقلي الباطني يردد بعض الدعاء والرجاء لله عله يصلح لي حال أبنائي، ويكون مع هذا الوطن الذي لا يستحق الخيانة والطعان.
وسرى النوم وئيد الخطى إلى مقلتيّ بعد أن تكللت غرفتي بسواد قاتم، وشعرت بيد تطبق على صدري، فحاولت النهوض ولم أستطع، ثم عاودت النهوض مرة أخرى فخانتني قواي، وشعرت بيد كبيرة تقبض على معصم يدي اليسرى.
لم أدر كيف تسلل هذا المخلوق العجيب إلى غرفتي المطلة على الشارع!
كان أشبه ببطانية. راح يطير حول جسدي بتثاقل ويشدني من يدي بقوة عجيبة كي يخرجني من الغرفة إلى الشرفة، وأنا أقاومه بكل ما أوتيت من قوة، ويتعالى صراخي كلما شدني أكثر باتجاه الشرفة محاولاً أن يرفعني فوق سورها الحديدي.
ناديت على أولادي، فلم يستجب أحدهم لندائي وهم يضحكون ويتسامرون حتى ساعات الصباح الأولى، منشغلين بالجولات وما خلفته من دمار لكل جيل الشباب. صرخت متوسلة إليه أن يتركني لكنه بقي متشبثاً بيدي. ثم شعرت بيد أخرى تمسح على ظهري وصوت يردد «لا تخافي يا أمي سوف تكونين بخير»، إنه أصغر أولادي وأحبهم إلي مازال يمتلك بعض القيم والشهامة، وزوجي أمامي يردد المعوذات وآية الكرسي.
كان المخلوق الشبيه بالبطانية السوداء قد ترك يدي، وراح يرفرف بعيداً عن منزلنا ليختفي في كبد السماء.
بدأت أستعيد وعيي، فوجدت نفسي على الشرفة لا أعرف كيف وصلت إليها، وراحت عيناي تجوبان بين النجوم تبحث عن مخلوق كاد يأخذني معه قبل دقائق.

التاريخ: الثلاثاء17-9-2019

رقم العدد : 965

 

 

آخر الأخبار
تعزيز الجاهزية الرقمية في المدارس الحقلية الزراعية بحلب  BBC: طالبو اللجوء السوريون في بريطانيا.. بين القلق وانتظار قرارات لندن  وفرة في الغاز وندرة في المال..  مدير عمليات التوزيع: رخصة الغاز ليست مشروعاً تجارياً  قمة أممية للذكاء الاصطناعي.. توجيهه لخدمة أهداف التنمية المستدامة   وسط توترات جيوسياسية وعسكرية.. القارة الآسيوية تغرق في سباق التسلح     ما هي دلالات وأبعاد رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب؟  رغم الرماد والنار.. ثمّة من يحمل الأمل ويزرع الحياة من جديد خبير لـ " الثورة" : ما خسرناه من غطاء حراجي يحتاج لسنوات ومبالغ كبيرة استمرار جهود الإخماد في اللاذقية لليوم السابع.. وتقليص البؤر المشتعلة بدعم عربي ودولي شبكة حقوقية تُدين تقاعس المجتمع الدولي وتُطالب بإعلان حالة الطوارئ في سوريا مقاربات واشنطن تجاه "قسد".. تثبيت لوضعها الحالي أم دفعها نحو دمشق؟ الشرع يلتقي المبعوث الأميركي.. دمشق و واشنطن.. تعزيز الحوار وتطوير علاقات التعاون عبد الكافي الكيال لـ"الثورة": جهودنا مستمرة.. ونعمل ليلاً ونهاراً للسيطرة على الحرائق قوى الأمن الداخلي تشتبك مع خلية مشتبه بها على طريق إدلب - بنّش.. وتضبط أسلحة وذخائر دراسة ضريبة الدخل على الراتب .. خبير اقتصادي: تستهدف فئة ذات دخل محدود تحسين الواقع الخدمي في الكفرين والبلدات التابعة الثروة الحراجية .. رئة البيئة تحترق في ريف اللاذقية تسجيل 414 شركة في 5 أشهر.. تسهيلات مستمرة وتنامي الطلب على الرقمنة والتحول الرقمي رابطة الجالية السورية في فرنسا تستكمل هيكلها التنظيمي أوجلان يعلن نهاية الكفاح المسلح.. مرحلة جديدة في العلاقة بين الكرد والدولة التركية