فاتح المدرّس.. قدرة إبداعية جامحة

 

الملحق الثقافي:سلام الفاضل:

نجح الفنان فاتح المدرس في إبداع لوحة خاصة به، تشكّل امتداداً لشخصيته الفذّة المغامرة، لوحة تقتحم ذاكرة المشاهد، وتحرره من عادات الرؤية التقليدية، كما تطلق أشواقه الخبيئة، وتحفزه كي يراها، ويرى العالم بشكل مختلف.
ففاتح المدرس وخلال حياته التي دامت سبعةً وسبعين عاماً، أحرز شهرة واسعة، واحتل مكانة عالية في تاريخ الفن التشكيلي السوري والعربي، لم يسبق أن أحرز مثيلاً لها فنان في هذا المجال. وللغوص أكثر في حياة هذا الفنان الكبير، والوقوف عند أبرز المحطات في نشأته، وحياته، وإبداعه، صدر مؤخراً ضمن سلسلة «أعلام ومبدعون» الكتاب الشهري لليافعة (فاتح المدرس)، تأليف: حسن م. يوسف، عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
المولد والنشأة
ولد فاتح المدرس عام 1922 وسط بيئة فلاحية في قرية (حريتا) الواقعة في الشمال السوري بالقرب من مدينة حلب. قتل والده وهو طفل لم يتجاوز عمره اثنين وعشرين شهراً، فعاش مع أمه طفولة شقية محرومة متنقلاً وإياها في قرى الشمال عند أخواله. ترك هذا اليتم المبكر الذي مُني به فاتح المدرس أثره الواضح في شخصيته، إذ زاد من ارتباطه بأمه إلى حد بعيد، ودفعه إلى الإعجاب بها حتى صار ينظر إليها كما لو أنها قطعة من المكان، وقد عبر فاتح عن هذا الحب الكبير الذي كان يحمله في قلبه تجاه والدته عبر كل فعالية قام بها على مدى عمره الطويل، وانعكس جلياً على نظرته الإيجابية للمرأة بشكل عام.
في الثامنة من عمره غادر فاتح المدرس حياة الريف لينتقل إلى حلب، وحينما خيّر بين الإقامة عند أعمامه في حي الفرافرة ذي الطبيعة الأرستقراطية، وبين الإقامة مع والدته، فضّل الإقامة مع والدته في أحد البيوت البسيطة في حي باب النصر.
أظهر فاتح المدرس منذ طفولته المبكرة مهارة في الرسم، وميلاً إلى الموسيقا، غير أن مواهبه هذه لم تلق أي تشجيع من أهله، وقد ازدادت هذه الممانعة مع دخول المدرس المرحلة الثانوية، غير أن ذلك لم يزده إلا تعلقاً بالفن، وقد ساعدته الظروف في تنمية مواهبه تلك وإبقائها تتدفق من داخله كنبع صاف.
بعد أن أتم المدرس دراسته في المرحلة الثانوية سافر إلى عاليه في لبنان لمتابعة دراسته في الجامعة الوطنية هناك، حيث تعرف بالأديب العروبي الكبير مارون عبود، الذي اكتشف بحسه النقدي المرهف والصائب المواهب الأدبية والفنية التي يتمتع بها فاتح، فنشأت بينهما علاقة مميزة هي أقرب إلى الصداقة.
في عاليه تطورت لغة فاتح الإنكليزية فراح يطلع على الأدب العالمي، ويدرس تاريخ الفن ومدارسه الحديثة، وعقب تخرجه في الجامعة الوطنية، عاد المدرّس إلى مدينته حيث عمل أستاذاً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في ثانويات حلب، وبدأت مشاركاته الفنية في الرسم، كما ظهرت إسهاماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات السورية.
بدايات سريالية
قادت روح التمرد فاتح المدرس نحو آفاق جديدة فشرع ينتقل من روائع الأبعاد وسحر المنظور، من السهول السورية، إلى رسوم فيها رموز عن الكون والغيب وتكوينات غير معقولة، أي بدأ الانغماس في السريالية؛ ودام انغماسه في هذه المرحلة منذ عام 1947 وحتى عام 1956، لكنه سرعان ما تخلص منها، وعاد إلى طبيعة ريف الشمال السوري الأثيرة إلى نفسه، وكان ينوس في هذه المرحلة بين السريالية التعبيرية والتجريدية.
في عام 1950 أقام فاتح المدرس معرضه الأول في نادي اللواء بحلب، فأحدث صدمة في الوسط الفني. وشارك في عام 1952 في المعرض الثالث للفنون التشكيلية الذي أقيم في المتحف الوطني بدمشق، وكان لمشاركته تلك أهميتها الكبرى في صياغة شخصيته، إذ نال الجائزة الأولى في التصوير عن لوحته «كفر جنة» التي عدّها النقاد وقتئذ في طليعة الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر.
عهد جديد في الفن السوري
سافر فاتح المدرس في عام 1957 إلى روما لمتابعة دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة هناك، وكان من حسن حظه أن أشرف على دراسته الفنان الإيطالي فرانكو جنتليني الذي كان من أعظم فناني إيطاليا يومها، وقد ترك جنتليني أثره في منهج فاتح التعبيري الماورائي، ولا سيما في جوانبه المعمارية، وإيقاعاته التكوينية، ودرجات إشراق ألوانه.
عقب عودته إلى الوطن بفترة قصيرة، عين المدرس معيداً في كلية الفنون الجميلة في دمشق عند إحداثها عام 1961، ليسافر لاحقاً في عام 1962 إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس (البوزار).
في عام 1972 أنهى فاتح المدرس دراسته العليا في باريس، ونال درجة الدكتوراه، ليعيد التأكيد على التوجه الذي اتخذه لنفسه في أكاديمية روما بابتعاده المتعمد عن المؤثرات الأوروبية، ومواصلة بحثه الدؤوب لتكوين رؤيا خاصة به، لها ملامح الشرق، لا بل ملامح سورية صافية.
بعد بضع سنوات من عودته إلى أرض الوطن عُين المدرس أستاذاً للدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، وكان قد بلغ وقتها أقصى درجات تألقه كفنان تشكيلي له بصمته الخاصة، وشهرته الواسعة، وكأديب يكتب القصة القصيرة بتمكن واقتدار، وكشاعر له حساسيته وتميزه، وكموسيقي يتقن الارتجال على البيانو، وكمثقف واسع الاطلاع.
نهاية الرحلة
لم يحظ فنان تشكيلي سوري بما حظي به فاتح المدرس من محبة الناس على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الثقافية، فقد مكننا عبر ريشته الساحرة من رؤية الأشياء والأشخاص، كما نظر إليهم ذات يوم بمحبة.
أغلق الفنان فاتح المدرس عينيه في 28 حزيران عام 1999، وقد شيع في جنازة مهيبة، ودفن بناء على وصيته في مقبرة «باب الصغير» إلى جانب الشاعر الكبير الراحل نزار قباني.

التاريخ: الثلاثاء29-10-2019

رقم العدد : 971

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق