الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
يتحدث كتاب (أعلام النقد الفني في التاريخ) للدكتور عبد العزيز علون (وهو آخر إصداراته قبل رحيله في 29/12/2011) عن سبعة أسماء ظهرت في مراحل تاريخيّة مختلفة، يمكن إدراج نتاجاتها تحت مصطلح (النقد الفني) الذي يقوم بجمع تأثيرات الفلسفة الفنيّة على إنتاج الفنانين، وتأثير هذا الإنتاج على المجتمع.
في طليعة هذه الأسماء كاسيوس لونجنوس الحمصي، الناقد الفني، والباحث في علم الجمال، والوزير الأول لملكة تدمر العظيمة زينب. ولد كاسيوس في حمص موطن أباطرة روما. درس الفلسفة اليونانيّة وآدابها في أثينا، ثم تابع في روما دراسة الفلسفة والبيان والثقافة الأدبية ليصبح من ألمع المفكرين والمثقفين. ولتنوع ثقافته وعمقها، أُطلق عليه أسم (المكتبة المتجولة). عاد إلى حمص ما بين عامي 260 و267 ميلاديّة. من أبرز كتبه (نحو ما هو سامٍ في الفن) الذي وضعه على شكل شذرات، اعتمد فيه على إصدار الحكم النقدي لتحديد مواطن البلاغة أو البيان في المادة الأدبية أو الفنيّة. وقد صيغ هذا الكتاب على شكل محاضرات توضيحيّة لمثقف روماني شاب، ربما كان أحد تلامذة مؤلفه في أثينا، أو في روما واسمه (بوستومياس تيرنتيانوس).
مهد لونجنوس لكتابه بالقول: إن كل بحث نقدي في سمو الفن، يقتضي بيان أمرين أساسيين هما شرح الموضوع الذي يُراد الحديث عنه، وبيان الوسائل التي تُحقق هذا الموضوع، أو توصل شارح الموضوع إلى غايته.
وقد وجد الدكتور علون في سوريّة مادتين متوفرتين تُعرفان بصورة أوليّة بهذا الكتاب. الأولى أملية للدكتور موسى الخوري المطبوعة في جامعة دمشق في عام 1958 وهي أملية موضوعة بالانكليزيّة على شكل أحكام سريعة، غلب عليها الإيجاز، وحُذفت منها الشواهد الأدبيّة، وأسماء المؤلفين اليونان، وتقع هذه الأملية في حوالي ستين صفحة. الثانية كتاب (أسس النقد الأدبي الحديث) الذي جمعه وبوّبه مارك شورد وجوزفين مايلز وجوردن ماكنزي والذي ترجمته هيفاء هاشم، وراجعته الدكتورة نجاح العطار في عام 1966 وقد صدر عن وزارة الثقافة في دمشق. في الجزء الأول من هذا الكتاب، نقلت المترجمة سبعاً وثلاثين صفحة من كتاب لونجنوس.
يُرجح الدكتور علون بأن هذا الناقد السوري العظيم، كتب ورفاقه في تدمر التي عاش فيها، بعدة لغات منها: الآراميّة التدمريّة، والفرعونيّة المتأخرة (الديموطيقيّة)، واللاتينيّة، واليونانيّة، وربما الآراميّة البابليّة.
وتحت عنوان (عمرو بن لحي والتحول الفني الكبير) أشار الكتاب إلى أن أصحاب السير والأخبار المسلمين، بالغوا في وصف أفعال هذا الرجل الذي قام بإدخال عبادة مجموعة من الأصنام إلى شبه الجزيرة العربيّة كهبل، وود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، ومناة، واللات، والعزة… وغيرها، بحيث يمكن القول إنه يمثل بداية لحقبة فنيّة جديدة في التاريخ العربي، ظهرت فيها تماثيل الشباب الرياضيين، وتماثيل النساء الجميلات، والأسود، والخيول، والغزلان، والطيور المختلفة، وقد غلب على معظم هذه الأصنام التي جلبها عمرو بن لحي، صفات الفن الهيلينستي الذي شاع في سوريّة في العصر السلجوقي، وتطور في مشاغل الفنانين السوريين في العصر الروماني بعد عام 64 قبل الميلاد، ويبدو أن الأرض العربيّة البعيدة في جوف البوادي والصحارى، قد تلقت التأثيرات الهيلينستيّة بعد عدد من القرون من وصول هذه التأثيرات إلى سوريّة. لقد ربطت المراجع العربيّة التي اقتفت أثر عمرو بن لحي، معظم أصنام شبه الجزيرة العربيّة باسمه. لكن متى عاش؟ تؤكد الوثائق على أنه عاش في مكة، وتزوج من بني جرهم، وعاش في فترة غير بعيدة عن عهد إبراهيم وإسماعيل وهاجر والأجداد المبكرين للقبائل العدنانيّة.
بعد ذلك يتوقف الكتاب عند القديس يوحنا الدمشقي الذي فدى الصورة الوجهيّة أو (الإيقونات) من التحطيم، بل لقد أصبح ناطقاً باسم محبي التصوير الوجهي أو الإيقوني أو التشخيصي، ووضع العديد من المؤلفات والدراسات حول هذه الفنون وعلوم الفن بشكل عام، عكست ثقافته الفلسفيّة الواسعة، وذوقه الجمالي، ونظرته إلى مفهوم (الإيقونوغرافيّة) الدينيّة ومبرراتها، وقد حفظت الأجيال الحجج التي ساقها دفاعاَ عن الإيقونات. من مؤلفاته (ينبوع المعرفة) وقد أصبح ناطقاً باسم محبي التصوير الوجهي أو الإيقوني او التشخيصي، وراحت تبدو في كتاباته لهجة الكنيسة التقليديّة القويمة.
وعندما أعلن الإمبراطور قسطنطين أن التصوير الوجهي المسمى بالإيقوني يمس عقيدة اتحاد الطبيعتين في أفنون المسيح، واتهم محبي الإيقونات بالكفر، والمروق على الديانة المسيحيّة، أعلن يوحنا الدمشقي بملء فمه: اعلم أيها الأمير أننا نطيعك في الأمور الدنيويّة، وندفع لك الضريبة، أما في أمور الدين، فإننا لا نصغي إلا إلى رعاتنا. لن نقبل أن يعلمونا عقيدة جديدة. لن نتحمّل أن يطيعوا على مشهد منا، مرسوماً ملكياً يطيح بعوائد آبائنا المقدسة. أقول مرة أخرى: لم يعط يسوع المسيح سلطان الحل والربط للملوك، بل للرسل وخلفائهم رعاة الكنيسة.
ويتوقف الكتاب عند أبرز مؤرخي ونقاد الفن في عصر النهضة الإيطاليّة (جورجو فاساري) المولود عام 1511 والذي اشتغل أيضاً في مجالات العمارة والرسم والنحت. من أهم إنجازاته النظريّة، وضعه كتاب حول حياة الفنانين العام 1546. اتسمت كتاباته باستخدام لغة إيطالية جميلة وفصيحة وذات بيان ووضوح، وهو صاحب مصطلحات فنية هامة مثل: الترتيب، النسبة، التصميم، الأسلوب، وقد شرحها ووضحها في مقدمة كتابه.
ثم يُشير الكتاب إلى تيرنير وراسكين ودورهما في نقل الفن من التقاليد الأكاديميّة نحو ضباب الانطباعيّة. ووليم تيرنير رسام بريطاني شهير (1775-1851). درس الفن أكاديمياً والتزم التقاليد الواقعيّة الصارمة، وقد اشتهر برسمه للمناظر الطبيعيّة. أما جون راسكين (1819-1900) فكان ناقداً وفيلسوفاً، دافع بقوة عن تيرنير عبر سلسلة من المقالات حملت عنوان (المصورون الحديثون). ومن مؤلفاته كتاب (المصابيح السبعة لفن العمارة) و(أحجار فينيسيا).
كما تناول الكتاب مؤسس التكعيبيّة والأورفيّة والحروفيّة والسورياليّة ونصير المستقبليّة والدادا (غوليوم أبو للينير) الذي يُعتبر من أهم أعمدة الفن الحديث في القرن العشرين. فهو شاعر من شعراء الملاحم، والشعر الغنائي الثوري العذب والعظيم، وأحد كتاب القصة والنقد الأدبي والسير التاريخيّة والنقد الفني، وهو بولوني الأصل، إيطالي المولد، باريسي الانتماء، عاش بدون جنسيّة خلال حياته، حيث رفضت بولونيا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا منحه الجنسيّة، ثم منحته إياها فرنسا قبيل وفاته، ثم تسابقت هذه الدول مجتمعة على الادعاء بانتمائه إليها بعد وفاته. وضع أبو للينير العديد من الكتب والدراسات، لكنه اهتم بشكل خاص بالفنان الإسباني بابلو بيكاسو وباتجاهات الفن الحديث.
بعدها توقف الكتاب عند الفنان والباحث الجمالي فاسيلي كاندينسكي (1866-1944) وهو روسي الأصل، عاش متنقلاً بين ألمانيا وفرنسا، ويُعتبر من أقطاب الفن الحديث. انضم إلى تجمع الباوهاوس في ألمانيا، وشكّل قطب رحى في العديد من التجمعات الفنيّة الأخرى، وكان فناناً تشكيلياً متميزاً، وفيلسوفاً ومُنظّراً بارزاً في ميدان علم الجمال. من أشهر مؤلفاته كتاب حول ما هو روحي في الفن.
ثم ينتهي الكتاب بملاحظات عامة حول تاريخ النقد الفني السوري المعاصر وأبرز الذين اشتغلوا فيه، مؤكداً أن هناك فارقاً واسعاً بين النقد الفني وبين تعليقات الصحافة المحليّة، وأن كثيراً من المواد التي نطالعها في هذه الصحافة لا تزيد عن كونها تعليقات عابرة، لا تدخل تحت عنوان النقد الفني، وأن نسبة كبيرة ممن يكتبون تحت ستار النقد الفني، لا يُتقنون اللغة العربيّة التي يكتبون بها.
التاريخ: الثلاثاء29-10-2019
رقم العدد : 971