باطوس أبي خيرات

 

 

 

 

حين أرخى الليل بعض سدوله نادى الأب ابنه الأوسط فور عودته من ملاعب الشقاوة التي جبلت من تراب وحصى والكثير من المسابقات التي لا تخلو من شغب محبب وعراك ينتهي بالصلح قبيل انفضاض الجمع إلى البيوت… يا بني اذهب وأخبر فلاناً وفلاناً أن يكونوا غداً عندنا صباحاً.. قل لهم أبي يحتاجكم بعمل ما…
أكثر من عشرين شاباً كانوا صباحاً أمام البيت.. همسات وكلام وتوزيع مهام.. كان أبو خيرات يبدو زعيماً وهو ينتقي الأشداء منهم ليكونوا في الصف الأول، وآخرون في الوسط، ولا بأس من حضور الصغار فهم كما قال يقدمون خدمات مفيدة.
شعر الفتى الذي تولى مهمة الإبلاغ أن الأمر عمل جماعي لكن ما هو..؟ لا يعرف، لكنه حين اندس بين الصفوف عرف أن الأمر يتعلق بتجهيز المعصرة اليدوية..
لم تكن مكابس الزيتون قد بدأت بعد.. والمعصرة لمن لا يعرفها قسمان: الباطوس الذي يطحن حبات الزيتون بعجلة من حجر قاس جداً يصل وزنها إلى الطن على الأقل، تدار بواسطة خشبة يحركها الشباب.. وبعدها إلى المعصرة التي تحتاج أيضاً إلى ثقال وطنب خشبي طويل يصل إلى العشرة أمتار يحمل الثقلين في مقدمته ومؤخرته وغالباً ما يكون من الحور أو البلوط.. ولأن معصرة أبي خيرات تقدم خدماتها مجانية للجميع لم يتوان أي من الشباب عن المساهمة في نقل حجر الباطوس التي تزن طناً وقد ربطت بالحبال.. وعلى مدى أيام كانت تتركز في مدارها .. ولابد من تجديد الطنب كما جددت الحجر..
جال أبو خيرات في غابات القرية مفتشاً عن شجرة سامقة تصلح للغاية.. وبعد عناء يومين وجد ضالته في غابة تبعد أكثر من ٦ كيلومترات، وهي بعد الوادي السحيق …
أعدت الشجرة للغاية المطلوبة وتكفل الشباب بحملها جذعاً كبيراً إلى المكان المحدد، وعلى الرغم من وعورة الدرب وتعرجاته وثقل الجذع كان العمل ممتعاً ترافقه روح الشباب الذين تباروا في من يكون في المقدمة أو المؤخرة…
وصل الطنب إلى المكان وجهزت المعصرة وبدأت آلة العمل تدور.. مساءات من أمل وعطاء ساعدا أبي خيرات تشدان الحبل الذي يوازن الثقلين لينهمر الزيت ندياً بهياً…
وعلى مصطبة التنور أكداس من الأرغفة التي وضعت لمن يريد أن يتذوق الزيت الشهي..
وحين يبدأ موسم التعبئة ثمة من ينادي «هذه لبيت فلان ليس لديهم زيت..» توزع حصصاً يقول موزعوها إنها البركة التي لا بد منها… الكل في عرس العمل الجماعي.. يمضي شهر ونيف وحجر الباطوس تدور وتدور ومعها قصص وحكايا..
أمس مررت قرب الباطوس الذي بقي صامداً على الرغم من نوائب الدهر.. الحجر مكانها منذ عشرين عاماً ونيف لم تتحرك، وشجيرات بطم نمت قرب المكان… لم يعد الزمن هو هو.. تغيرت الحكايا وضاع العمل الجماعي وضاعت معه حكايا الدفء والعطاء.. تغير كل شيء.. بدا الزيت مزاً مراً كالحاً.. حتى شجيرات البطم القريبة بدت هرمة لم تعد تؤنسها حكايانا.. فانزوت حتى صارت إلى اليباس.. كل شيء غدا معلباً للاستهلاك.. لا الحكايا ولا فزعة العمل الجماعي… قمحل المكان.. لكن عشباً ينبت كل عام في المكان يبحث عن أصحابه يروي بعض الحكايا فلا يجد من يصغي فيمضي على أمل العودة.. وعلى بعد عشرات الأمتار من الباطوس كان ضريح أبي خيرات قرب شجرة تين شتوي، وعلى بعد مترين من جب ماء حفر في الصخر ليكون ماء سلسبيلاً لمن يمر بالمكان… تلك بعض السطور من صفحات كان الباطوس يكتبها ويرويها…
نسيت أن أقول إن كلمة الباطوس ربما معربة أو هي من فعل بطش وتم تحويرها.. وفي آثار الساحل ستجد معاصر دهرية كان القدماء قد بنوها من أجل الزيت أو النبيذ..
ديب علي حسن

التاريخ: الجمعة 1 – 11-2019
رقم العدد : 17112

 

آخر الأخبار
أسواق حلب.. معاناة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة مهارات التواصل.. بين التعلم والأخلاق "تربية حلب": 42 ألف طالب وطالبة في انطلاق تصفيات "تحدي القراءة العربية" درعا.. رؤى فنية لتحسين البنية التحتية للكهرباء طرطوس.. الاطلاع على واقع مياه الشرب بمدينة بانياس وريفها "الصحة": دعم الولادات الطبيعية والحد من العمليات القيصرية المستشار الألماني الجديد يحذر ترامب من التدخل في سياسة بلاده الشرع: لقاءات باريس إيجابية وتميزت برغبة صادقة في تعزيز التعاون فريق "ملهم".. يزرعون الخير ليثمر محبة وفرحاً.. أبو شعر لـ"الثورة": نعمل بصمت والهدف تضميد الجراح وإح... "الصليب الأحمر": ملتزمون بمواصلة الدعم الإنساني ‏في ‏سوريا ‏ "جامعتنا أجمل" .. حملة نظافة في تجمع كليات درعا سيئول وواشنطن وطوكيو تتفق على الرد بحزم على استفزازات بيونغ يانغ تنفيذي الصحفيين يجتمع مع فرع اللاذقية درعا.. تبرع بالدم لدعم مرضى التلاسيميا غارات عنيفة على النبطية .. ولبنان يدعو لوقف الاعتداءات الإسرائيلية "زراعة القنيطرة".. دعم الفلاحين بالمياه والمستلزمات للزراعات الصيفية فلاحو درعا يطالبون بتخفيض أسعار الكهرباء توفير الأسمدة والمحروقات أول عملية وشم واسعة النطاق للخيول الأصيلة في دير الزور إدلب: في أول جولة له بالمحافظة.. وزير الاقتصاد يطَّلع على الواقع الصناعي والتجاري مرتبطة بسمعة الطبيب السوري.. كيف يمكننا الاستثمار في السياحة العلاجية